الثلاثاء 2013/03/12

آخر تحديث: 03:01 (بيروت)

"الطائفة" معلومة سرية

الثلاثاء 2013/03/12
increase حجم الخط decrease
 تعرض الإحصاءات الصادرة عن المؤسسات الحكومية  مواضيع متنوعة. هناك إحصاءات العمل والقوى العاملة وهناك الإحصاءات التربوية والإحصاءات الصحية وغيرها. وتقدم هذه المعلومات عادة بحسب عدد من العوامل السكانية. فالمسجلون في المدارس تعرض أعدادهم ويجري توزيعهم بحسب المحافظة أو القضاء، و بحسب الجنس وبحسب العمر. المعلومات عن المحافظة والجنس والعمر هي "سكانية" لأنها مسجلة في سجلات النفوس وموجودة على بطاقة الهوية أو إخراج القيد. إنها ليست تقديرية ولا تتغير ولا "تكتسب" بالعمل أو النشاط.
أما شهادات المعلمين والجامعات التي ارتادوها والمواد التي تخصّصوا فيها، أو التأخر المدرسي للطلبة فهي عوامل مكتسبة إذا صح التعبير. وهذه بالتحديد المواضيع التي تحلّل استناداً إلى العوامل السكانية. وكلما تعددت العوامل السكانية المستخدمة في المعالجة الإحصائية كانت المادة المقدمة إلى القارئ أكثر غنى وقدّمت فهما أفضل للوقائع المدروسة.
تستخدم جميع العوامل السكانية الممكنة إلا الطائفة (والدين) في الإحصاءات اللبنانية. مع أن هذه المعلومة مثبتة في سجلات النفوس. ننتبه فجأة إلى هذا الغياب كلما اقتربنا من الانتخابات. في هذه المناسبة فقط يتحول الكلام عن عدد الشيعة في هذا القضاء أو السنّة في تلك الدائرة الانتخابية من حرام إلى حلال. ويكفّ فجأة عدد أبناء هذه الطائفة أو تلك عن أن يكون سرّاً. ونقرأ في الصحف جداول تفصيلية عن التوزيع السكاني بحسب الطائفة. بل إن جميع المواطنين (في عمر 21 وما فوق) يظهرون على شاشة لوائح الشطب مكشوفي الطائفة، من دون حرج. في هذه اللحظة فقط تتطابق المعرفة الشفهية وما يدور في الكواليس مع المعرفة المكتوبة وما يقال في العلن. 
في الأساس النواب يعرّفون على أساس انتمائهم الطائفي والوزراء والرئاسات الثلاث والمدراء العامّون والمدراء غير العامين يتم التعريف بهم على هذا النحو والمعيّنون بموجب مباريات والمعيّنون بموجب منافسة، والمتفرغون في الجامعة اللبنانية... الخ كلهم تنظّم جداول بهم على أساس الطائفة، لكن من المعيب قول ذلك علناً. والمعلومات الطائفية هي أكثر دقة من أي معلومات أخرى كالشهادة والعمر، لأن هناك من يدقّق ويمحّص إن من جهة أصحاب الشأن أو من جهة أصحاب العلاقة أو من جهة القوى السياسية. المعلومات عن طائفة كل شخص مجمّعة ومخزنة ولكنها ليست للنشر. الطائفة معلومة سرية، أي مسموحة للاستخدام السياسي ولكنها محرمة في التحليل السكاني أو السوسيولوجي.
الناس يعرفون تماماً الانتماء الطائفي ويتداولونه وربما يعانون منه، لكن يجب عدم الكلام علناً. والزعماء لديهم ملفات تفصيلية عن جميع المواقع التي يتمّ التنافس عليها، إن في القطاع العام أو في القطاع الخاص، ولكن الملفات تفتح في الاجتماعات المغلقة أو تحلل لأغراض استراتيجية. أما في الكتب المدرسية من الصف الأول حتى نهاية الصف الثالث ثانوي فلا توجد كلمة "طائفة" و"طوائف". في الكتب المدرسية هناك كلمة "العائلات الروحية". هذه العبارة نبيلة وتلك مشينة. 
إنه إنكار مخادع لواقعة سكانية  قائمة مثلها مثل غيرها من العوامل السكانية الأخرى. لعل هذا الإنكار كانت له وظيفة سياسية سابقا عندما جرى التوقّف عن تعداد السكان خوفا من المطالبات السياسية ذات الأساس السكاني في فترة الغلبة المارونية. تغيرت المعطيات السكانية لاحقا لكن الإنكار ظل قائما حتى بلغت العلاقة بين الواقعة والإنكار حدّ الاحتقان وانفجرت الحرب الأهلية مرتين مرة لمدة سنة ومرة لمدة 15 سنة. 
الآن أصبح الإنكار ثقافة سياسية ولعبة يلعبها الجميع. أصبحت اللغة المزدوجة في هذا الموضوع لغتنا جميعاً، السياسيون والمواطنون والمعالجون الإحصائيون والأكاديميون. والسياسيون يتغذون من هذا التلاعب المخادع. التنميط الطائفي هو مثل التنميط الجنسي، يحتاج إلى جهد ثقافي من أجل جعل الطائفة معلومة عادية، وفكّ الخيارات الفكرية والسياسية عن الهوية الطائفية. أما المواطنون الذين يرفضون الانتماء لأي طائفة  حتى بالمعنى السكاني  أي في الإحصاءات أو في الانتخابات فما عليهم إلا الإعلان عن ذلك وتسجيل عدم انتمائهم لأي مذهب في دوائر النفوس على غرار المطلقين. وفي الإحصاءات تكون لدينا عندئذ فئة سكانية جديدة.
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب