الأربعاء 2013/03/20

آخر تحديث: 09:32 (بيروت)

هيتو: الهوية الميدياوية

الأربعاء 2013/03/20
هيتو: الهوية الميدياوية
increase حجم الخط decrease
بالنسبة إلى غالبيتنا، وُلد غسان هيتو، رئيس الحكومة السورية الانتقالية المنتخب، قبل أربعة أيام فقط. لم نكن نعرف شيئاً عن الرجل قبل أن نقرأ أخباراً مسرّبة عنه، من داخل أروقة المعارضة السورية. "غسان هيتو الأوفر حظاً للفوز برئاسة الحكومة". "مرشح الإخوان". "بعض ليبراليّي المعارضة لا يوافقون على تسلّمه المنصب". "سوري، أميركي". "عضو ورئيس لعدد من المؤسسات والجمعيات في الولايات المتحدة". "خبير اتصالات، ترك وظيفته وانضم إلى العمل الإغاثي في الثورة"...
قالت تلك الأخبار أشياء عن الرجل، ولم تقُل. أو أنها قالت، ولم نعِ ذلك، إذ لا أساس واقعياً، حياتياً، في عقولنا عن الرجل. لم نره من قبل، ولم نسمع صوته أو نسمع عنه. لم نقرأ له كتاباً أو مقالاً. لم ندركه بحواسنا.... حتى الأيام الأخيرة. أدركناه "ميديوياً"، وشكّلنا صورته في عقولنا، كل منا على حدة.
بعد انتخابه، راحت تتوالى "الوثائق الشخصية" التي تعرفنا بالرجل عبر الإعلام التقليدي أو البديل. انتقل من الظل إلى حالة يهتم بها "الرأي العام"، وهذا ما لا تتحكم به إلا السياسة أو الأفعال الإنسانية الخارقة والنادرة. انتقل من الحيز الافتراضي المتخيل، إلى الواقع. أنشئت، سريعاً، صفحة شخصية ورسمية له على "ويكيبيديا" (متاحة بالعربية والإنكليزية والألمانية)، مرفقة بصورته وبسيرته. وكذلك جرى على "تويتر" و"فايسبوك" (ثمة عشرات ممن افتتحوا صفحات سموها باسم الرجل، بل ثمة من حوّل عنوان صفحته، غير الجماهيرية، إلى اسم هيتو، مستغلاً ولادته أمام الجميع، وهويته غير المكتملة بالنسبة إلى كثيرين).
حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت ظهوره التلفزيوني، ليلقي خطابه الأول، كان غسان هيتو شخصية ميديوية مثالية، نقية من مواصفات الواقع، وتحتمل الكثير من التأويلات والإضافات وربما الحذف. تعيدنا "حالة هيتو" هذه، وعلاقتها بالفيديو، إلى المقولة الشائعة بأن التلفزيون هو الوسيط الأقرب من الواقع، بوصفه بصرياً سمعياً، نتلقفه باثنتين من أكثر حواسنا تأثيراً في علاقتنا بالكائنات وآرائنا تجاهها. سبقت هويته الوليدة، تلك الواقعية. وكان في إمكانه، لو أراد، خلال ظهوره التلفزيوني، نسف تلك الهوية الافتراضية بكل تفاصيلها ومفرداتها، وأن يؤكد، بأفعال مناقضة لما قيل عنه، أن الميديا ليست أكثر من صورة ذات وجهين، لا يمكن تفنيدها أو إثباتها إلا استناداً إلى الواقع. بل إن الميديا، والافتراض، ليسا سوى طريقين من وإلى الواقع الذي لا يمكن فصلهما عنه.
لكن التباساً كبيراً يواجهنا حين نقارن غسان هيتو اليوم، بعد قفزته إلى الواقع، بغسان هيتو الأمس. أي أن هويته الافتراضية، كخبير اتصالات وحامل شهادة في الرياضيات بل وناشطاً في الإغاثة، لا تشبه الهوية التي أطل بها علينا أمس في خطابه، بوصفه رجل سياسة ورئيساً للحكومة السورية الأولى بعد الثورة، كما قد تسجل كتب التاريخ. على أي حال، سيبدو هذا الالتباس أقل إشكاليةً، في المستقبل، لمن سيقرأونه في ضوء التاريخ، على عكس من يعايشونه اليوم، نحن الذين شهدنا على ولادة الهويتين وتحولاتهما.
تبدو قضية ظهور هيتو المفاجئ، وخروجه من العتمة إلى مسرح مضاء يتابعه الملايين، مثالاً مناسباً للوقوف على دور الميديا وصناعتها. فحتى قبل وصوله إلى منصبه، احتل مكاناً في "العقل الجماعي" المتابع لوسائل الإعلام. شكّل (يبدو سطحياً القول إن هيتو هو الذي "شكّل" هذه الصورة... فهذا دور السياسة وألعابها ومديريها) جمهوراً افتراضياً خاصاً به، بفضل السرديات الإعلامية... جمهور سينتقل معه إلى الواقع، لكنّ هذا لا يعني أن التصورات والآراء عن هيتو، السابقة لخروجه إلى الواقع، ستظل كما هي، بعدما صار سياسياً معروفاً "ملموساً" وواقعياً.
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب