الثلاثاء 2013/03/19

آخر تحديث: 08:27 (بيروت)

تكنولوجيا النزوح

الثلاثاء 2013/03/19
increase حجم الخط decrease
"الثالثة ثابتة"، كما يقول المثل.
أخبرتني أمي، على الهاتف، أن مقهى الإنترنت هذا سيحل مشكلتنا، بعدما خذلنا خط النت الرديء في المرتين الماضيتين عندما لم يعمل "سكايب". اتفقنا على موعد هو الساعة الثالثة عصراً، ولذلك، كان عليّ أن أحادثهم من الجريدة، حيث أعمل.
أعدت تسريح شعري وترتيب ملابسي للمرة الخامسة ربما. تأكدت من أن المحارم، التي وضعتها تحت كنزتي كي أبدو سميناً بعض الشيء، كلها مخفية ولا يمكن لأهلي أن يروها (هم لا يعرفون، ولم أرد لهم أن يعرفوا يوماً، أنني خسرت 14 كيلوغراماً من وزني، خلال إقامتي في لبنان. كانوا كلما اتصلوا بي هاتفياً، أعيد على أسماعهم الكلام ذاته، حول "روعة" حياتي البيروتية، بكل تفاصيلها، بدءاً من الأكل والنوم الجيدين، وليس انتهاء بالدراسة والسكن). لطمت خدي أكثر من مرة كي "أصحصح"، وفركت عيني بأصابعي، وحاولت أن أبدو في أكثر لحظات حياتي نشاطاً. الآن، تفصل بيني وبينهم خمس دقائق.
ثمة، لدى أهلي، أمي وأبي تحديداً، خجلٌ من التكنولوجيا "الحديثة" (نعم، الإنترنت تكنولوجيا حديثة بالنسبة إليهم، وإلى البيئة الشعبية التي أنتمي إليها، فماذا إذاً لو تحدثنا عن "سكايب"، بوصفه واحداً من توليدات هذه الحداثة؟). أتحدث عن هذا الخجل لأنني قضيت الدقائق الخمس وأنا أفكر فيه، أو في دلائله، التي ستظهر بعد قليل على وجه أبي تحديداً، والذي أجزم بأنه لم يكن ليفكر مرة واحدة في حياته بالذهاب إلى مقهى إنترنت في الحالات الطبيعية.
تجاوزت الساعة الثالثة وأهلي ما زالوا "أوفلاين". اتصل بي أخي، الذي يرافق والديّ مع ابنه الصغير، وقال لي إن الكهرباء قُطعت في المقهى، وإنهم ينتظرون تشغيل المولّد. مضت عشر دقائق قبل أن يظهر المربع الأخضر "السكايبي" أسفل الشاشة. هذا أجمل إشعار رأيته في حياتي!
اشتغلت الكاميرا. ملأ أبي وأمي الكادر، في ما يشبه صورة تذكارية. أبي يدخن، وأمي تضع يداً فوق أخرى وهي تنظر إلى أخي الذي يعدل الكاميرا المحمولة. رأيتهم قبل ان يروني بثوانٍ. اضطرب جسدي، ولا أعرف إن كان ضغط دمي قد هبط أم ارتفع. لم يتغير والداي كثيراً. التغير الأكبر كان بادياً على ابن أخي، الواقف بين مقعديهما، والذي بلغ الخامسة من عمره ربما. والده، أخي، تغير أيضاً، ويبدو أنه كبر خمسة أعوام خلال عام واحد.
"ألو؟ ألو!". لم يسمعوني أو  يروني بعد. وعندما ظهرت صورتي أمامهم، انتفضت أمي، وهي تقترب من الشاشة وتشير بيدها إلى أخي وتقول: "طلع طلع... حمودي؟ انت شايفنا؟؟". كانت جملاً "مقدسة" تلك التي تبادلناها، يفصل في ما بينها صمت ورجفة ليسا غريبين. بكت أمي قليلاً، لكنها سرعان ما تجاوزت الصدمة، لتريحني، لا لتريح نفسها، هي التي تتصل بي من تحت القصف لتسألني إن كنت أتغطى بحرام سميك، أو آكل طعاماً جيداً!
كانت ساعة من العمر، تلك التي جمعنا فيها "سكايب". بعد عشرين دقيقة منها، استطاع أبي كسر ذلك الحاجز بينه وبين التكنولوجيا. صار مبادراً، يدير الكاميرا إلى نفسه حينما يريد أن يخبرني شيئاً. يتحدث بصوت طبيعي، من دون أن يلتفت يمنة أو يُسرة إلى الشباب الذين يملأون المقهى. أمي، كما توقعت، طلبت مني أن أحلق لحيتي التي لم تكن طويلة جداً، وأن "أخفّف شعري"، وأن أجول بكاميرا اللابتوب على جسدي لتتفصحه من الأمراض وآثار قلة النوم، كما طلبت أن أجول بالكاميرا على تفاصيل المكتب. وضعت اللابتوب أمام النافذة، بحيث تنقل لهم الكاميرا صوراً من بيروت. "حلوة بيروت"، قالت، "بس انتبه من البنات. ما بدي وصيك ها!". هي مثل أي أم تعتقد بأن ابنها دون جوان زمانه، وبأن كل الفتيات يبحثن عنه.
اقترح أبي على أمي فكرة زيارتي هنا في بيروت. لكنها فكرة ألغيت سريعاً، إذ أنهم نزحوا بعد ذلك بأيام، نزوحاً ثالثاً اضطرارياً، إلى قرية نائية جداً، ليس فيها حتى شبكة اتصالات هاتفية.
لم يتح لي ولأهلي التواصل هاتفياً سوى مرتين منذ نزوحهم الأخير. في المرة الأولى، اتصلوا بي وقالوا إنهم في الطريق. وفي المرة الثانية، مشت أمي مع أخي أكثر من ثلاثة كيلومترات، وصعدا تلة مرتفعة، ليعثرا أخيراً على شبكة اتصالات، ويتصلا بي. قالت لي حينها: "لا تقلق، إذا اتصلت فينا وما علّقت الشبكة، لأنو ما في تغطية بهالضيعة. كل فترة منحاول نجي لهون ونحاكيك. انتبه ع حالك وتغطى وكول منيح، وما تنسى الأشيا اللي وصيتك فيّا".
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب