الخميس 2014/09/25

آخر تحديث: 14:33 (بيروت)

"فلاح هذا الزمان": الحب في المواجهة

الخميس 2014/09/25
"فلاح هذا الزمان": الحب في المواجهة
ماذا يعني أن تكون من أصول فلاحيّة في هذا الزمان؟
increase حجم الخط decrease

ماذا يعني أن تكون من أصول فلاحيّة في هذا الزمان؟
ربما يكون هذا هو السؤال الهاجس في قصائد الشاعر المصري محمود عاطف (1983) في ديوانه الأول "فلاح هذا الزمان" الصادر عن دار روافد، يبدأه بقصيدة "نينة دريّة" عن جدته ومواجهته لأول مرة حدث الموت، وعدم فهمه له كطفل، معتقداً أن أمه تبكي من أجل مقالب طفل آخر، وفي مقابل حنان الجدّة نجد الشح المادي والعاطفي من الجد، "في أوقات الشدّة/ كنتِ تدخرين من مصروف البيت/ ما يكفيك وخالي الذي/ يكبرني بسنوات.
أوقات الشدّة في قاموسك ليست/ سوى شحّ جدّي المعتاد/ فتأتين لسؤالي/ أنا الأزهري الذي تثقين/ في عمامته البكر/ لكنّي لا أدري/ أيّ فقيه كان يمكنه أن يفتيكِ / بشأن شحّه العاطفي؟!". وهو ما يمتد في باقي الديوان كله: حنان واحتواء الأنوثة مقابل شظف وعنف الذكورة كما يظهران في قصيدة "زيارة" و"السيّد الوالد".

القصيدة الثانية "نصوص برلين" هي ذهاب الفلاح إلى الخارج، كصدى "فلاح باريس" للشاعر الفرنسي لويس أراغون. لكن هذه المرة "فلاح برلين" الذي يرى على عكس بيت الشاعر عباس بيضون، أن هناك أمور تقال بلغتين، مثل التشابه بين بقايا كنيسة "تركها الألمان دليلا/ على أن الله مرّ من هنا/ تماماً، كما هلل أشباهك على/ مسجد لم يجرفه "تسونامي"/ وبقي شاخصاً وسط الخراب/ كأنما المسجد أولى من الساجد!" وهنا نجد أيضاً قسوة الأنثى ممثلة في الحبيبة التي "تُحس في شنطة ماكياج تشتريها/ ألفةً أكثر من صحبتك"، تجعل "الإله الذي يجلس/ فوق برج بعلامة زائد/ أو يستقر على مأذنة يعلوها هلال/ حتماً لازال يبكي"، وحين تطلب منه سماع أغنية المنديل مرة أخرى يتذكر أنها ما مالت ولا ألقت شيئاً، في جفاء يشبه ما رآه في طبيعة برلين التي تشبه خلفيات الويندوز.

يكتب عاطف محمود عن علاقة الشرق بالغرب حيث "انفصال حضاري" بين حبيبين ينتهي بخاتم تذكار يعطيه لصديقه السنّي الملتحي، زميله في العمل الذي "لم يلتمس خاتماً من حديد، قدر ما أن الذي يلامس جلده الآن قطعة من أوروبا"، فيشفق على سذاجته. نرى شكلاً آخر من أشكال السذاجة الذكوريّة في "الفحل الرومانسي" حيث يستخدم الذكر لغة ذكوريّة تعينه على رد الشبق ورد خيباته المتكررة، وينصحه الشاعر بأن يترك لغته القضيبية على عتبه الباب "كي نصدّق أن تأوهاتها المكتومة/ وهي تئن تحت ثقلك/ تمّت/ بغير مساعدات لغويّة"... وهنا يظهر صفة أخرى في الذكورة، غير العنف والشظف والسذاجة، وهي قلة الحيلة والضعف وبالتالي اصطناع القوة والعنف. تتقاطر القصائد بعد ذلك بشكوى الذكر المغلوب على أمره من قسوة الحبيبة في "رابور" –المستوحاه من قصيدة الشاعر يوسف رخا "بهجة"، و"المتفرجون" و"صباح الخير" و"بلكونة"، ونجد اختلافا نوعياً بين الشهوة الأنثى في قصيدتي "حبّات القمح" و"الأسد"، حيث الشهوة الأنثوية سريّة مدسوسة ومنثورة في الأركان، والشهوة الذكرية تزأر وتعلن عن نفسها كأسد يتمدد إلى غابة.

يعود عاطف في قصيدة "فلاح هذا الزمان" ويشرح بصورة مجازيّة تمتد عبر القصيدة على عدم وجود مفهوم العشق والحب بين أهله، فيرحل عنهم ليكون مثلما في قصيدة أخرى، يونساً "الذي عبر البحر وحده"، متمنياً "ثمرة غريبة كالبكاء" التي حين يجدها تنبت لها جناحان وتتركه إلى شاطئ آخر، فيجد رأسه "فارغاً من الفاكهة"، فيواصل الشاعر رحلته بأسف، ومع كل صيد جديد ينسى أمر البساتين. وفي قصيدة "ما بعد"، نرى أن أهله "ساروا في طريق نسيوا عليه معاولهم/ من بعد خطاب "الزعيم الخالد"!، تنتابهم الحيرة بين ظلال لا تخصهم، ومن غير سؤال عن معنى الحيرة، ومعلقين على حوائطهم دهشتهم كتمائم تقيهم حسابات المجازفة، فيعلن الشاعر أمام قسوة الوجود أنه جاء "من غير محبة كافيّة لاحتمال الألم"، ويهاجم أهله وقد زرع بسمته في حقولهم ولم تثمر له شيئاً: "أيها المتزلّجون على زبدٍ / تظنونه الحياة/ التائهون حد أنكم تتعثّرون/ في سراويلكم/ من أوحى لكم بأن الله/ لا يسكن سوى الحقول؟!/ أو أنّ قرص الشمس/ لا ينبت إلا في جلابيبكم؟!" ويرحل غير آسف معلناً أن "الله ليس في الماضي/ ولا في جيب أصحاب اللحى"... يربي هذا في الذات قسوة، قسوة الذات الشاعرة التي تخبئ القمر من الناس فيبتلعه –كما في قصيدة الغلاف التي تكمل قصيدة "قمر" – كحبّة أسبرين، تضحك لأن ليل الناس أسود وهذا يعطيه بعض التعزيّة. وحتى قسوة تجاه الذات نفسها كما في قصيدة "ملاذ": "لهذا/ سكنتُ في مكاني تماماً/ وقلت لنفسي: هكذا أحسن/ فأنا يمكنني اتقاء المطر/ بشبهة مظلّة/ يمكنني حتّى أن أفتح له صدري/ بلا كثير اكتراث"، وهي القسوة التي يراها الشاعر منعكسة في قصيدة "ثبات" حتى في لوحة إعلانات حيث يجري ولد إلى ما لا نهاية ناحية كرته، والتي تذكرنا بالثمرة الغريبة التي تمناها يونس/ الشاعر ولا يصل إليها أبداً، فيشفق عليه ويفكر بمساعدته دون جدوى. وهي القسوة التي نجدها بشكل أوسع بمعنى سياسي/ اجتماعي في "هكذا أوحشتني في المنام"، حيث عُرس نصف حضوره من الموتى، ويلتهم النصف الآخر بواقي الطعام، ولا شيء ينبئ أن الفرحة حاضرة، بل ألحان جنائزية تعد بالفناء الذي يأتي في صورة شخص ضخم يلبس الكاكي –دلالة على هويته العسكريّة- وحول خصره سلاح آلي، والأيدي تتقاتل على الطعام الرخيص، فيما بدا الأموات لا يؤرقهم الضجيج. هذه القسوة التي تقتل الحب وتحتم الهروب، الذي يفشل بانغلاق الباب على هذا المشهد الكابوسي البشع، فيه الموتى يرتدون الكاكي، والأسلحة صارت كمطر الشتاء على كتف الحضور.

مع ذلك، يختم عاطف ديوانه بقصيدة مليئة بالأمل وفيها ثمة بيت يضج برائحة الحبيبة وآلاف الكتب التي تحفظ النسل، فيتمدد الأمل (الحب) الشعر مثل جدار وجد ظلّه أخيراً!

increase حجم الخط decrease