الأحد 2014/07/06

آخر تحديث: 13:35 (بيروت)

"الانحناء على جثة عمّان": الفَضْح كأدبٍ مضاعف

الأحد 2014/07/06
"الانحناء على جثة عمّان": الفَضْح كأدبٍ مضاعف
increase حجم الخط decrease

"أعتقد أني أكتب لكَ لأنه لم يعد ثمّة أحياء أستطيع الحديث معهم. لأننا قفزنا جميعاً مرّة أخيرة ووجدنا أنفسنا في منازل مأهولة. وجدنا أنفسنا وقد رتّب أحد، أو شئ ما مستقبلنا قبل أن نستطيع أن نشير إليه، أو قتله" (أحمد الزعتري).

ربما كان مفهوم التشريح والفضيحة مرتبطين باللاشعور الجمعي. فالتشريح، الذي يكون غالباً جنائياً، يفضح أسباب الموت وحُرمة الميت وهوية الجاني على السواء. فعل يحرّمه الدين والتقاليد، إلا في حالات إستثنائيّة، كشبهة الموت غير الطبيعي أو لخدمة خير عام يحتاج بشكل ضروري إلى هذا الإنتهاك والفضح.

"الانحناء على جثة عمان"، الرواية الأولى للكاتب والصحافي الأردني أحمد الزعتري، الصادرة عن المركز الثقافي العربي (2014)، سيرة ذاتيّة مثلما هي سيرة مدينة – بلد (هل من الممكن سرد الذات حقاً من دون سرد المكان؟). مدينة مخلوقة خلقاً وبأكثر الملابسات التاريخيّة إحراجاً واعتباطيّة، ولذا فهي تسقط في ذاكرة فارغة بلا قرار، فـ"عمّان لا تعني شيئاً محدداً. يمكنها أن تكون كل الأمور التي ذكُرتها، لكنها بدون ذاكرة فعلية. إنها خدعة: كمين اشترك في نصبه الجميع ونجوا منه كلهم". وهذا الانحناء المذكور في عنوان الرواية غرضه التشريح وليس مد يد العون، فمن يمد يد العون إلى جثة ميتة؟ الجثة كما جاءت مراراً في الرواية للاستهلاك من أجل عيش يوم آخر في الفراغ. هذا "الفراغ الذي يضغط علي الصدر" والقريب جداً، بحسب مقولة هايدغر، لدرجة أنه قمعيّ ويخطف الأنفاس، لكنه، رغم ذلك، ليس في أي مكان.

يحكي البطل في الرواية عن هذه الذاكرة الفارغة في صيغة مستقبل ديستوبي (مضاد لليوتوبيا) مرعب وشاطح الخيال، فيه حرب أهليّة طويلة مفزعة التفاصيل تفكك المدينة وتقطّع أوصالها، ومع ذلك لا تزال قريبة الشبه بما يحدث في حاضرنا لكن بنزق خيال يضخّم التفاصيل والأحداث بحسب منطقها، حيث الانزلاق من حاضر فارغ ومعلَّق في الهواء إلى مصير بائس ونفعي ينتظر أي ثوري أو مصلح، بسبب أبعاد المدينة نفسها ومكوناتها الانثروبولوجيّة والتاريخيّة والسياسيّة التي تبتلع إحداثياتها أي محاولة من قلب نظامها لتجاوز أزمة الذاكرة وزمني الحاضر والمستقبل.

لا يحتاج زعتري إلى أدوات كلاسيكيّة في تشريحه، من توصيف شخصيات وحبكة محكمة وحدوتة واضحة المعالم. بل ينطلق في كونشيرتو الفضح، يضرب، ويدفس المبضع في كل مكان بحرفية ودقة من صَبَر طويلاً ويعرف تضاريس الجثة كوجهه. من الممكن اعتبار هذا الكونشيرتو مكوَّناً من حركة واحدة مثل النَص الروائي الخاص ببول أوستر، "في بلد الأشياء الأخيرة"، والذي فضح في مدينته هو الآخر، والذي تكاد تكون رواية "الانحناء" للزعتري، الصدى العربي لها، وتجاور روايات أخرى فضحت مُدنها، مثل "الخالق" (2013) لأحمد الشافعي (مقال سؤال الحاكم والمدينة)، و"كتاب الطُغري" (2011)، ليوسف رخا و"ليمبو بيروت" (2013) لهلال شومان. هذه الروايات المُدُنيّة في جماليات عنفها وسردها المكاني الذي تركّبه تجد دوماً ما هو ممتع ومتجدد ومخترق.

هل هذا الفضح والإنتهاك سببه البغض؟ صحيح، لكنه ليس ذلك فقط. لأن المدينة الخاصة بك تعني أيضاً جزءاً منك، وتعني أصدقاءك وأهلك الذين تتمني أن يكونوا في حال أفضل وفي فراغ أكثر رحمة. وفضيحة كهذه، ممتازة كهذه، زلقة وخبيثة كهذه، كانت لا بد ستُمنع من حرّاس المدينة. كيف تتصرف إذا قال لك أحد أن ما تحميه وتمثله هو جثّة، جثّة عفنة إذا انحنينا عليها رحمةً، سنرى تفسخات ملامحها وجنون أعضائها؟! مُنعت الرواية فعلاً في الأردن، موطن الزعتري، بعد أسبوعين فقط على صدورها، تستراً على "الفضيحة"... بعبارات من نوع: "لا يوجد منها أي فائدة" و"تسيء لمدينة عمّان"، "تخدش الحياء العام"، و"إساءات أخلاقية ووطنية"، وطبعاً: "خالية تمامًا من الأدب والثقافة".

فأي فضيحة تكون أخلاقيّة، أو لا تخدش الحياء، أو لا تهاجم بضراوة موضوعها؟ بهذا المنع تكون السلطة الأردنية مشاركة في تقدير العمل أدبياً، وفهمته – للمفارقة الساخرة – بأحسن ما يكون، على عكس الكلام عن أنها خالية من الأدب. بل ربما كانت تقصد، عاجزة عن التعبير، أن تقول أنها أدب زائد عن اللازم، أدب فضيحة، أدب حيوي وليس مطيعاً ولا ضمن الحدود المعروفة والبليدة.

كان رد الكاتب دالاً للغاية ومتسقاً مع نَصّه الروائي: "أنا لست فخوراً بمنع الرواية. قد أكون كذلك أمام نظام نازيّ، لكن ليس أمام مثل هذه الدولة الهشّة!".
والسؤال هو: كم فضيحة أدبية مثل هذه تحتاج مُدننا العربية حتى تصلح للاستخدام الآدمي؟

increase حجم الخط decrease