الجمعة 2014/06/27

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

قهر المصريات.. إلا حين تحتاجهن الدولة

الجمعة 2014/06/27
قهر المصريات.. إلا حين تحتاجهن الدولة
يلوحن بالأعلام بعد أداء السيسي خطاب القسم الرئاسي (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease

قضية المرأة، كقضيّة إجتماعيّة، لا تنفصل عن قضية الإنسان في وجوده الإجتماعي. والتحرر الإنساني كمسعي مرتهن بسياق تحرر اجتماعي وفكري عام، تكون حركة المجتمع، بعناصره المختلفة، حركة صاعدة فيه في اتجاه الانفتاح والتقدم، وتكون المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات أساسه ومنطلقه. ومن هذا المنظور تكون قضيّة حقوق الإنسان أشمل مما اصطلح لها إجتماعياً، بما لها من بُعد سياسي يتمثل في أن الديموقراطية تعني مشاركة الجميع - المرأة والرجل- في صنع الحياة العامة والمصير الإنساني المشترك.

لكن الواقع، بخريطة القوى فيه، مختلف عن هذا المثال النظري. فبتحليل جندري أولي، نجد أن من يملك مفاتيح القوى الاقتصاديّة (مقاليد رؤوس الأموال والسوق في إيدي نخبه "رجال" الأعمال)، والسياسيّة (أكبر مؤسسة في الدولة هي المؤسسة العسكريّة "مصنع الرجال" إلى جانب المناصب السياديّة والوزرايّة)، والتشريعيّة (القضاة ومجلس النواب بغالبيّة ذكوريّة ساحقة)، والدينيّة ("رجال" الدين والمؤسسات الدينية بكل الإنحيازات الشرعيّة-الفقهيّة واللاهوتية-القانونيّة الراسخة).. هم بوضوح وبشكل شبه مطلق: الرجال دون النساء. ولهذا السبب تُعامل المرأة معاملة الأقليات الهامشيّ،ة رغم ضخامتها الكميّة (نصف العدد الكلي للمواطنين تقريباً)، من حيث الإصرار على حاجتها للدخول تحت حماية ونفوذ الرجل وممارسة القهر عليها بأشكال وممارسات عديدة، مثل الزواج المبكر والختان والتعدي الجسدي وتقييد حرية الحركة والوصاية والمنع من اتخاذ قرارات مصيرية بالحياة. ويرتبط وضعها كجزء من القمع العام في دائرة القهر، حيث يمارس الذكر المستبعد والمقموع سياسيّاً واجتماعيّاً، على الأنثى، سلطة المقموع باسم التقاليد والدين والتراث. وتدوِّر المرأة القهر على بنات جنسها، من لومهن وقمعهن بالتربية، وعدم التضامن معهن، بل والهجوم عليهن. وهذا سبب آخر يجعل قضية المرأة لا تنفصل عن معركة الحرية والديموقراطية والعدل الاجتماعي، بل وتجعل الوضع القانوني والاجتماعي للمرأة، ومكانتها، معياراً لمدى تحقق تلك الأمور الأساسيّة.

حين كنت أقدم محاضرة في مركز "مجاورة" المعماري، عن لاجدوى مدينة القاهرة من منظور المشاركة في المجال العام، لأقول أن المجال العام المصري طارد للمرأة، وفيه تجليّات فشل المدينة ومحدوديتها وتفسخها، رفع مستمع يده وقال: كيف هذا والمرأة موجودة في كل مكان الآن؟ ردي علي هذا السؤال كان باختصار: التحرش والإنتهاك الممنهج والمتصاعد في عنفه ونوعه. وفي حين أن الرجل له حق الحضور في مختلف أوقات اليوم وفي مختلف الأماكن العامة، نجد المرأة محصورة بشكل خاص في مواعيد وأماكن محددة ترتبط أساساً بمواقيت العمل.

خروج المرأة المصريّة إلى المجال العام حق مكتسب، بعد التقدم الحداثي في الحقبة الليبراليّة المصريّة في بدايات القرن العشرين والحركة الثقافيّة النهضويّة، وبعدها الحقبة الناصريّة ذات المشروع التنموي القومي الذي احتاج إلى قوى المجتمع كافة للمشاركة فيه، بالتوازي مع ظهور الصحوة الإسلاميّة ممثلة في الإسلام السياسي الذي رأي في ذلك خروجاً على الشرع والدين والعرف، وتشويهاً للنظام الطبيعي الذي يقسم "الخارج" للرجل (المجال العام/الاجتماعي/السياسي) و"الداخل" (البيت/الأسرة/الأطفال) للمرأة، وينادي صراحة برجوعها إلي البيت حيث مكانها الطبيعي والواجب، والحرص علي حبسها داخل أسوار البيت من حيث سترها بوصفها عورة. هيمنت النظرة الأخيرة على المنظور الثقافي للمجتمع المصري بعد ذلك، منذ السبعينيات وصعود التيارات الإسلاميّة، مع التأثيرات الخليجيّة والرجعيّة كعلامة فشل مشاريع التحديث الكبرى وانسحاق الهويّة وصدمات النكسة والانتهاكات الإمبرياليّة الإقليميّة وفقدان الشعور الوطني، عبر خطاب الاستنارة الوسطي الذي يبرر هذا الوضع الشاذ بمبررات شرعيّة تغطي تشوهاتها الذكورية، تحت اسم جذاب هو التراث والتقاليد، واسم آخر للإسلام السياسي هو الشريعة والخصوصيّة. ما يشير إلى حداثة مشوهة ببُعد واحد شكلاني ذي طابع سياسي واجتماعي، تفرضه ضرورات العصر، دون البُعد الآخر الجوهري من تأسيس معرفي لوعي جديد تجاه العالم والذوات.

لكن تحت إلحاح الواقع، وقسوة الاحتياجات الاقتصادية المتزايدة، لفشل المشاريع الوطنيّة والضعف والتفسخ الدولتي، خرجت المرأة لتعمل في مجالات كثيرة. فوضع هذا الخروج تحت طائلة "الضرورات تبيح المحظورات"، مشروطاً بالحجاب ومنع الاختلاط والتزاحم مع الرجال، وليس كحق طبيعي لها. وهو ما تبنته الوسطية الدينية التي اتخذها المجتمع والدولة المصريّة ايديولوجيا رسميّة لها. ويكفي أن ننقل مثالاً واحداً من كلام أحد أعلام الوسطيّة، وهو الدكتور مصطفي محمود، في مقال له في صحيفة "الأهرام" الحكوميّة في التسعينيات: "نسمع هذه الأيام صيحات التمرد التي يطلقها نصفنا الآخر اللطيف وأكثرهن زوجات لرجال أثرياء، يطالبن بالخروج من البيت للعمل ويلقين بأولادهن في الشارع، وتصرخ الواحدة في وجه زوجها بأنها تريد أن تحقق ذاتها وأن رأسها برأسه سواء بسواء.. يحيرني هذا المنطق، فأي تحقيق للذات تريد أن تصبح هذه المرأة أو تلك، سكرتيرة لفلان، أو مهندسة للمجاري أو صرافة في بنك أو بائعة في سوبر ماركت.... إن تحقيق الذات هو كلام روايات وطلب للتغيير والصرمحة". فنرى هنا أن تواجد المرأة في المجال العام هو وضع شاذ في الذهنيّة الثقافيّة، ويدلل على "الصرمحة" والإنحلال، وهو دعوة للإنتهاك باعتبار المرأة أساساً عورة، قبل كونها إنسانة أو مواطنة لها كامل الحقوق في التواجد والمشاركة المجتمعيّة، مكانها الطبيعي ومجال تحققها هو داخل البيت.

ثنائية الداخل والخارج تلك، حيث ينحصر وجود المرأة داخل حدود جدران البيت لرعاية الأسرة والأمومة، بينما يكون الخارج مجال فعالية الرجل وميدان ممارسة نشاطه، مرَّت أيضاً بتغيرات سياسيّة عديدة منذ بداية الألفيّة وحتى الآن. فحين حصل التحرك الديموقراطي وشاركت فيه المرأة المصرية، شهد العام 2005 تطوراً في مسألة العنف الجنسي. فقد قامت الدولة المباركيّة حينها، في حادثة شهيرة، عرفت لاحقاً بـ"الأربعاء الأسود"، بتأجير بعض "البلطجية" للاعتداء جنسياً على الصحافيات والناشطات المعترضات على التعديلات الدستورية. وبعدها، "الاعتداءات الجنسية الجماعية على النساء في أحداث عيدي الفطر والأضحى العام 2006 في منطقة وسط البلد.. ومنذ البداية، صاحبت تلك الظاهرة، والتي اتخذت منحى تصاعدياً سريعاً ومخيفاً في الوقت نفسه، حالة عامة من التواطؤ المجتمعي والمؤسسي، شكلت عائقاً دائماً أمام أي محاولة جادة لمناقشتها والتعامل معها، أو حتى الاعتراف بها. تطور سريعاً خطاب تبريري سعى إلى تحميل المسؤولية لأطراف تلك الحوادث نفسها، سواء الناجيات أنفسهن عبر التركيز على ملبسهن أو سلوكهن، أو ردود أفعالهن أثناء الهجوم عليهن" (من مقال "استباحة النساء في المجال العام"؛ هند أحمد زكي وداليا عبد الحميد، يناير 2014، موقع "جدلية").

ثم نجحت النساء، في ثورة يناير 2011، في اقتناص حق التواجد في المجال العام كحق لهن ممثل في حق التظاهر والتجمع السلمي كأحد أهم حقوقهن السياسية والمدنية. وربما كان احتفال النساء بالرقص في الانتخابات المتعاقبة، حتى الأخيرة منها، كممارسة لاشعورية لبهجة التواجد في المجال العام واحتساب صوتها مؤثراً في مجريات الأمور المصيريّة، وكضرب من إثبات الوجود النوعي. صاحب هذا النجاح في الوجود المكثف، هجوم جنسي ضارٍ، هو، في جزء منه، محاولة لطردهن من هذه المساحة، لإعادتهن إلى حدود ما قبل 2011، وهو ما اشتركت فيه الدولة في "حادثة كشف العذرية"، عندما قام أفراد من المؤسسة العسكريّة بتطبيق كشوف عذرية إجبارية على المتظاهرات اللواتي تم اعتقالهن يوم 9 آذار/مارس 2011 في ميدان التحرير. وسحل مواطنة وتجريدها من ملابسها في الشارع، من قبل الشرطة العسكريّة، ما عرف بحادثة "ست البنات"، و"شهد العامان 2012 و2013 سقوط أول قتيلتين للعنف الجنسي في مصر... واللتين قتلتا نتيجة لمقاومتهما للتحرش" (المصدر السابق).

صعود تيار الإسلام السياسي إلي سدّة الحكم، وتغييرهم الدستوري والقانوني لحقوق المرأة المكتبسة عبر عقود طويلة، وتحجيمها في منظور متخلف ورجعي، تلاه تطور أخير إيجابي مؤخراً، لسبب سياسي، هو احتياج الدولة للكتلة النسائية. إذ بيّنت الاستطلاعات حضورهن الغالب في عملية الانتقال السياسي الأخير، في خروج الجموع يومي 30 يونيو و3 يوليو من العام الماضي، وارتباطهن العاطفي الواسع بممثل الدولة، بتطوير وتفعيل قانوني وخطابي كوسيلة لكسب شعبيّة وولاءات جديدة غير مستغلة سياسياً في السابق.

لهذه الأسباب كافة، لا تنفصل قضية المرأة أبداً عن النضال العام الثقافي والسياسي والإجتماعي، ضد القمع والتعذيب، ونضال الأقليات العرقيّة والدينيّة والثقافيّة في مصر من أجل مجتمع منفتح ومتطور أكثر عدالة وديموقراطيّة.

increase حجم الخط decrease