السبت 2014/11/08

آخر تحديث: 13:13 (بيروت)

رومانسية "الفن الثوري" في مصر

السبت 2014/11/08
رومانسية "الفن الثوري" في مصر
"أصبح الفن الثوري جزءاً من التاريخ بدلاً أن يكون في الصدارة".
increase حجم الخط decrease

في بداية محاضرته التى ألقاها الفيلسوف الفرنسي آلان باديو عام 2003 في مركز الرسم في نيويورك تحت عنوان "خمس عشرة أطروحة عن الفن المعاصر"، قال: "أظن أن السؤال الكبير حول الفن المعاصر هو كيف لا تكون رومانسياً. أنه السؤال العظيم والصعب جداً". هذا التصريح، أو المنطلق الذي يضيء الخمس عشرة أطروحة التي قدمها خلال محاضرته، يفسره باديو بأن الفن المعاصر واقع تحت الرغبة اللانهائيّة للأشكال الجديدة، في الوقت الذي له نفس الاهتمامات والانشغالات الرومانسيّة: الجسد، المتناهي، الجنس، القسوة، المعاناة، الموت، في مزج تركيبي بين الرومانسيّة والشكلانيّة. ويضيف في حسم: "جميع الخمس عشر أطروحة لها هدف واحد: سؤال كيف لا تكون رومانسياً- شكلانيّاً".

ما علاقة هذا بما يسمي الفن الثوري في مصر في الأعوام الأخيرة؟ في مقال الكاتب أحمد ناجي المنشور بتاريخ 31/10/2014 في موقع معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط باللغة الانكليزية والمُعنْون: بين شقّيّ الرحى، مصير الفن الثوري في مصر. يقول ناجي أن الفن الثوري الذي ظهر في بداية الثورة (2011) كتعبير فني يحمل رسالة سياسية مباشرة وواضحة، "فيه خطأ واحد. موضوع هذا الشكل من الفن في مصر تغير عدة مرات، من السخرية من مبارك ونظامه، إلى المجلس العسكري، وفي النهاية الأخوان المسلمين ومرسي"، مما جعله فناً ارتكاسيا، رد فعل، وليس مجرد "عرض رياضي صارم"، وهو التعبير الذي أخذه ناجي من الأطروحة الثانية عشر لباديو "على الفن اللا-إمبريالي أن يكون صارماً كعرض رياضي، مفاجئاً ككمين في الليل، وسامياً كنجمة". فتعبير هذا الفن كان رد فعل على الاحداث السياسية، ولذلك يتغير بتغير هذه الأحداث. ونتيجة لذلك "أصبح الفن الثوري جزءاً من التاريخ بدل أن يكون في الصدارة". ويتساءل ناجي بعد ذلك، كيف يمكن لهذا الفن، بعد سخريته ونقده لمبارك، أن يبقى ثورياً بعد إزاحته وظهور مرحلة جديدة أكثر عنفاً؟!

في الحقيقة هذا التساؤل يطرح أكثر من إشكاليّة؛ ماذا يعني أن يكون الفن ثورياً؟ هل بتناوله خطابات ثورية؟ وإذا كان كذلك، ما يفرقه، فنيّاً، عن الفن الايديولوجي، التابع لخطاب الدولة مثلاً؟ وكيف يكون الفن ثورياً سياسياً يحمل رسالة مباشرة دون أن يتناول الأحداث الآنية المتغيرة، ويتم محاسبته لاحقاً على ذلك؟ ولماذا ظهر الفن الثوري، كالغرافيتي مثلاً كما تناوله ناجي، ليس على صرامة العرض الرياضي؟ يشرح باديو اختياره هذا التشبيه أن العرض يكون لشيء غريب، يمتلك نوعاً من الأبديّة، لا يخضع إلى التواصل الخالص، التدوير الخالص، والتكييف المستمر، شيء يقاوم ومقاومته نابعه من ثبات وصلابة، وذلك عن طريق منطقيته كمعادلة لها تماسك واتساق. وهنا نتساءل، كيف يكون لفن الغرافيتي هذا التماسك والتأبيد وهو فن عابر وزائل، بل ويعاد تشكيله ومحوه بشكل جمعي تلقائي، بالتعريف؟

في الأطروحة التاسعة يقول باديو: الذروة الوحيدة للفن المعاصر هو الايكون إمبريالياً (متطابق مع الخطاب العولمي للرأسمالية الفائقة)، أي ألا يكون ديموقراطياً (بالمعنى المتعارف والمتفق عليه للديموقراطيّة) بل له أخلاق أرستقراطيّة-بروليتاريّة: وحده، يفعل ما يقول، بدون التمييز بين أنواع من الناس. ويضيف في الأطروحة الحادية عشر: التجريد للفن اللاامبريالي لا يهتم بحشد أو جمهور محدد. وفي ضوء هاتين الاطروحتين لا بد أن نناقش حدود فن الغرافيتي كفن، كيف يكون "فن شارع"، بالتعريف، غير ديموقراطي؟ كيف لا يهتم بالعابرين-الجمهور المفترض ولا يدخلهم في حساباته المضمونيّة والشكليّة؟ هنا تكمن الإجابة، وهي إجابة ليست بالسهلة، بل تضفي على المشهد نوعاً من الارتباك. ويزيد هذا الارتباك الاستشهادات التي ذكرها ناجي في مقاله، فمشهد الراب والغناء الثوري في مصر لم ينج من البلاغة والخطابة السياسيّة، فبات مثلاً ينتج خطاباً سياسياً له مسحة وجودية بألفاظ مثل الله، الدولة، الوطن، المؤسسة، النظام، الوجود، الفراغ، البؤس، الموت، إلخ.. بشعرية خطابيّة تجعله نبياً أو خطيباً سياسياً أكثر من كونه شيئاً آخر، وإم. سي. أمين له خطاب يكاد يكون محافظاً فكرياً وأخلاقياً باستخدام ألفاظ صريحة ومتحررة. وهو ما ينطبق أيضاً على رامي عصام "مغني الثورة" ببلاغة القصائد العاميّة السياسيّة المباشرة بدءاً بالشاعر أحمد فؤاد نجم وليس إنتهاءاً بالأبنودي وكل ما بينهم. حتى موسيقى المهرجانات التي ظهرت في البداية بكل طاقتها المتمردة وأخلاقياتها وجمالياتها الشعبيّة الخاصة، ضاربة بعرض الحائط اخلاقيات ونظام الطبقة الوسطى المهيمنة على المجتمع، تم تدجينها مع الوقت فنياً وتجارياً وأصبحت تغني بسلامة أخلاقيّة تحت استعارات لكلمات أغاني سابقة متوافق على وجودها داخل الحيز الاجتماعي. 

بشكل أعمق، الفن الثوري، كما هو مطروح، بلا مهرب فن رومانسي؛ يفصل بوضوح (واختزال؟) بين الخير والشر، بين الطيب والشرير، ويري الصراع مبسطاً في عالم ملحمي ينسجه بمفرداته الحادة وفورانه وحشده العواطف، ولا يتوقف عن محاولة فرض نفسه كصوت اللحظة، الجديد دوماً، دون أن يعني الجديد أنه خارج حسابات الامبراطورية التي استوعبت معظم ظواهر الفن الثوري ودمجته في حركة الاعلانات والعروض التجاريّة ثم تجاهلته بعدما حولته إلى صرعة واتجهت إلى الأسماء والرموز ذات الرأسمال الثقافي المعتادة. وهو ما ينعكس على سؤال ناجي في علاقه الفن الثوري بالتاريخ، فالأمر الوحيد الذي يضمن للعمل الفني أن يكون حاضراً هو أن يكون جزءاً من التاريخ. لكن أي تاريخ؟ تاريخ الفن تحديداً وليس التاريخ السياسي-الاجتماعي، فمع المحاولة الدائمة لتصدر اللحظة يتجه بثبات إلى زواله.

ويبقى السؤال الأهم: هل كان فعلاً الفن الثوري المصري ذو حمولة خارجة، متمردة، عنيفة في تفكيكها العالم كما يتمثل، وفي إعادة تعريف الحدود المفروضة ايديولوجياً؟ من ناحية ما، هذا حدث، لكن في مراحل لاحقة، حين تشعبت الأمور وزال وجهها الرومانتيكي الواضح، أصبح الفن الثوري غير ذي-صلة بقلب الأشياء وصميمها. يقول باديو في المحاضرة نفسها: "الأمر اليوم لا يتعلق بنقاش فني بين الحرية والدكتاتورية، بين الحرية والقمع، بل بين تعرفين للحرية". وأضيف أنه علينا التحلي بالشجاعة لمساءلة الأنواع المختلفة للتعبير الفني وحدودها وقدراتها على مقاومة الاستيعاب من قبل الإمبراطوريّة؛ بنظام داخلي متماسك ومعاند للتدوير الاستهلاكي والاستخدام الديموقراطي بمعناه المدفوع والمفروض بشكل مباشر أو بشكل مُبطن ومُتشعب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها