الأحد 2015/11/08

آخر تحديث: 13:51 (بيروت)

الانتخابات التركية كشفت أزمة المعارضة

الانتخابات التركية كشفت أزمة المعارضة
عندما يظهر زعيم معارض بمظهر الديكتاتور، فهذه مشكلة كبرى (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
جرت الانتخابات التركية الأخيرة في ظروف من الصعب أن تتكرر. وإذا كان إعلام ما يسمى "الممانعة" يحاول القول إن هذه الظروف خدمت "العدالة التنمية"، فإن الواقع يقول عكس هذا.

أجريت الانتخابات في واقع متشنج تراجعت فيه قيمة الليرة التركية، واستنفرت وسائل الإعلام الداخلية المعارضة -تشكل الغالبية المطلقة- وانضمت إليها وكالات الأنباء والصحف العالمية، وروجت أن "العدالة والتنمية" هو تنظيم "داعش"، وأشاعت أخباراً عن انقسامات داخل "العدالة والتنمية"، وعن نية رئيس الجمهورية السابق عبد الله غول تأسيس حزب جديد. حتى إن هذه الوسائل تحدثت عن الحزب الجديد الذي أطلق عليه اسم "الحزب الخامس" وكأنه واقع ملموس لا يقبل الجدل. من جهة أخرى، نفّذت "داعش" عمليات إرهابية ضد تنظيمات يسارية معارضة لتصبح هذه التنظيمات ضحية، وغالباً ما يتعاطف الناس مع الضحية، وعلى الرغم من كل هذا أفرزت النتائج مشهداً أقل ما يقال فيه إنه صاعق.

لعل هذا الضخ الإعلامي المركز هو الذي كان سبباً بشيوع مقولة "التزوير في الانتخابات" التي لم تصمد كثيراً لأن الإقرار بالتزوير يضر بالمعارضة التركية نفسها التي تراقب الانتخابات من لحظة انطلاقها حتى صدور نتائجها.

لقد كانت نتيجة الانتخابات مزلزلة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فقد أعلنت كثير من قيادات الصف الثاني والثالث في أحزاب المعارضة استقالاتها احتجاجاً على قياداتها الحزبية التي فشلت في تحقيق النجاح على الرغم من هذه الظروف التي من الصعب أن تسنح مرة أخرى.

كانت أهم مقولات أحزاب المعارضة في حملتها الدعائية إبان انتخابات 7 حزيران/ يونيو الماضية، هي: "على أردوغان أن يستقيل بعد فشل حزب العدالة والتنمية بتحقيق الغالبية البرلمانية". ومن الطبيعي أن يستقيل رئيس حزب أو زعيم عند فشله في تحقيق أهدافه. من جهة أخرى كان قد وعد رئيس حزب المعارضة الرئيس حزب "الشعب الجمهوري" كمال قلتشدار أوغلو، قبل انتخابات 7 حزيران أنه سيستقيل إذا نزل حزبه تحت خط 25 في المئة، ولكنه عاد عن وعده بعد نزوله تحت هذه النسبة مدعياً أنه انتصر لأن "العدالة والتنمية" لم يستطع تشكيل حكومة بمفرده، وحتى إن أنصاره احتفلوا في المدن الكبرى والمدن التي له فيها تواجد كبير بمناسبة "هزيمتهم" في الانتخابات.

في الانتخابات الأخيرة حظي "الشعب الجمهوري" بزيادة في أصواته بلغت حوالي نصف نقطة، رفعته بعشري النقطة، ولهذا كان أكثر سؤال يطرح على كمال أوغلو: "هل ستستقيل؟" فكان جوابه: "لقد حققنا تقدماً في الانتخابات، وهذا يعني أن ناخبنا يطالبنا بالاستمرار على النهج".

لعل عبارة "الاستمرار على النهج" هي مفتاح تفسير كل ما يجري على الساحة السياسية التركية؛ إنها تعني ببساطة تمسكه بمقعده الذي قاد فيه حزبه 9 انتخابات إلى الفشل، وهو نفسه الذي يطالب رجب طيب أردوغان بالاستقالة لأنه يراه فاشلاً.

ليست هذه أولى تناقضات حزب "الشعب الجمهوري"، فهو لا يدعي العلمانية فحسب، بل يحتكرها، ويعتبر أن أحداً في تركيا لا يمكنه المحافظة على العلمانية غيره، وفي الوقت ذاته يتحالف مع جماعة فتح الله غولان الإسلامية الدعوية. ولا يمكن لهذا الحزب أن يدعي بأن تحالفه مع هذه الجماعة تكتيكاً، فتاريخه حافل بتحالفات مع الجماعات الإسلامية وخاصة النقشبندية قبل أن تتحول هذه الجماعة إلى دعم حزب "العدالة والتنمية". لعل التناقض الأبرز في هذا الحزب هو دعمه المطلق لحكم الإمام الفقيه، واحتفاء وسائل إعلامه بكل ما يصدر عن "الجمهورية الإسلامية"، وفي الوقت ذاته اعتبار الإسلام السياسي الخطر الأكبر على الديموقراطية.

يكرر هذا الحزب كذبة كبرى باعتبارها مسلمة لا تقبل الجدل، وهي أن "حزب الشعب الجمهوري هو الذي جلب الديموقراطية التعددية إلى تركيا"، والصواب هو "إن حزب الشعب الجمهوري هو الذي رضخ للضغوط الأوروبية للتخلي عن سياسة الحزب القائد للدولة والمجتمع كشرط لانضمام تركيا إلى حلف الناتو" في عام 1946 عندما أقر بمبدأ التعددية الحزبية.

وهكذا فإن خصلته الحميدة هذه هي مجرد كذبة صقلتها الألسن، حتى أصبحت مسلّمة.

عندما نستعرض النتائج التي حصل عليها حزب "الشعب الجمهوري" في انتخاباته عموماً نجد نسبتها تتراوح بين 20 و25 في المئة، عدا استثناء حققه الحزب بقيادة بولند أجاويد. وتنخفض أصوات "الشعب الجمهوري" نقاط عددة نتيجة احتجاج أنصاره على سياسيته، فيعزفون عن الإدلاء بأصواتهم، ويرضون في أحيان أخرى، فيعودون إلى التصويت لحزبهم من جديد. ومن هذه الناحية فـ"الشعب الجمهوري" صاحب الكتلة الانتخابية الأساسية الأصلب في تركيا. وحين كنت صبيحة يوم الانتخابات في منطقة شيشلي في اسطنبول التي تعتبر إحدى أهم قلاع "الشعب الجمهوري"، رأيت كيف يخرج الناس حتى على كراس متحركة، وفي سيارات الإسعاف من أجل الإدلاء بأصواتهم لحزبهم. ولكن أي حزب سياسي لا يمكن أن يحظى بالأغلبية أو يحقق نجاحاً مميزاً يجعله مؤثراً في الساحة السياسية بالاعتماد على أعضائه وأنصاره فقط، ولابد له من الانفتاح على الآخر، وطمأنته من أجل أن يحظى بصوته، ولكن حزب المعارضة الرئيس، والحزب الأقدم في تركيا يوجه خطابه دائماً إلى أنصاره فقط، والمستغرب أنه إذا كان يستهدف أنصاره بدعايته الانتخابية، فلماذا يقدم هذه الدعاية؟

لا شك أن الديموقراطية لا يمكن أن تستوي دون معارضة قوية، ومن الطبيعي أن تبدو أية حكومة تدير أي بلد دون معارضة حكومةً ديكتاتورية، ولكن عندما يظهر زعيم معارض بمظهر الديكتاتور، فهذه مشكلة كبرى.

كانت الانتخابات التركية زلزالاً سياسياً حقيقياً، فهل يهدم هذا الزلزال تلك البنى؟     
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها