الخميس 2014/07/31

آخر تحديث: 15:27 (بيروت)

طرابلس القديمة: تعددت التغيرات.. والفقر واحد

الخميس 2014/07/31
increase حجم الخط decrease

"قربي يا مدام قربي أي قطعة داخل المحل بألفين ليرة.. يا مدام قربي"، يكرر الشاب العشريني الواقف أمام أحد المحال التجارية في ساحة التل في طرابلس عباراته هذه كثيراً. ينادي على المارة ولا يمل. يستمر في تكراره لجذب الزبائن، فهذا هو "موسم الشغل الأهم في المدينة"، وفقه.
لوهلة قد يظن الغريب عن طرابلس أنه أخطأ السمع. يشك في أن الشاب كان يقول إن أي قطعة بعشرين ألف ليرة. فكيف يمكن أن يباع قميص نسائي جميل في أسبوع العيد بألفي ليرة؟ يعيد الشاب العبارة ويقطع الشك باليقين. "نعم إنها بألفي ليرة لبنانية فحسب. بالنسبة لأصحاب المحال يبقى الشاطر بينهم من يقدم العروضات الأكثر إغراءً للزبائن"، يرد الشاب. 



على واجهات المحال المجاورة إعلانات عن تخفيضات في الأسعار بنسبة 50 في المئة. يشير صاحب محل الألبسة محمد حمزة إلى أن "الحسومات ضرورية لتشجيع الناس على الشراء. حتى لو كنا في أيام عيد فالأوضاع المعيشية لسكان طرابلس والجوار تبقى هي نفسها، سيئة جداً، ونحن لا نريد أن تتكدس البضائع عندنا". الزحمة وتدفق الناس بكثافة نحو ساحة التل وأسواق طرابلس القديمة، يشيان بأن حركة الحسومات أتت ثمارها. فقد عاد النبض إلى أسواق طرابلس الداخلية، بعدما هجرها بسبب الخضات الأمنية المتتالية. وعندما تدخل السوق تجد الحلوى والسكاكر موزعة في علب بلاستيكية يميناً ويساراً، والثياب منثورة في كل صوب، حتى أن بعضها يتدلى من أسقف المحال.



عالم البسطات


تصل إلى السوق العريضة فتخال قناطره الأثرية كأنها أذرع فتحت لاحتضانك. تدخل بروية، فالمكان يضيق برواده شيئا فشيئا. يلتطم الناس بعضهم ببعض وهم على عجلة من أمرهم، يكتفون برسم ابتسامات صغيرة على وجوههم، وكأنهم يقدمون اعتذارات. أما الصغار، فيمشون ووجهوهم إلى الخلف. يُبقي الأطفال عيونهم مسمرة على ذويهم، خوفاً من أن يضيعوهم  وسط الإزدحام. خلف أحد الأطفال عجوز بين يديها زمرة من الأكياس، تردف بتأفف شديد، بلهجتها الطرابلسية: "شو هيدي، ما في محل للواحد يحط اجرو بالسوق!".


مع إزدياد عدد البسطات التي تعرض بضاعتها وسط السوق القديمة، ضاق المكان أكثر فأكثر. في وسط الساحة "تُبسط" بضائع عدة مثل النظارات الشمسية، ألعاب الأطفال، الملابس الداخلية، الأحذية، والساعات والأكسسوارات. ناهيك عن بسطات الكعك الطرابلسي الشهير، والعصائر اللذيذة مثل عرق السوس والتوت. وبين البسطات تلك تفوح روائح الذرة "المسلوقة". وتزعج كثرة البسطات العديد من رواد السوق، فأبو حسن، الرجل الخمسيني، هدد أصحاب البسطات بتقديم شكوى ضدهم في البلدية. يقولها وهو ممتعض من المشي باعوجاج. "وين العالم بتروح بحالها بدنا نجيب غراض من السوق والله ما بيصير هيك الواحد ما بيعرف حالو وين بدو يمشي". يضيف بعصبية: "إنو إذا الواحد ما خبر البلدية ما بتستحو إنتو، استغفر الله العظيم!".

الرجل يعرف أن البلدية كانت قد طرحت مشروعاً يقضي بإدراج أسواق طرابلس القديمة ضمن لائحة الأماكن التراثية، وحذرت من تشويه صورة المكان بالبسطات العشوائية. إلا أن وجود هذه الأخيرة يبقى موضوع نقاش. فهي "من ذاكرتنا"، كما يقول خليل ديب وهو ابن محلة الزاهرية في طرابلس. "البسطات شيء ارتبط باسم طرابلس القديمة، نحن لا نعرف هنا سوى الحوانيت الصغيرة". "إنو في أطيب من كعكة بجبنة على منقل فحم دافي على شي بسطة، من إيدين رجال فقير؟ ولا في أحلى من علبة بليلة على الطريقة الشامية القديمة. هيك هي طرابلس كثير بسيطة"، يقول ديب.


تبدلات


يسهل على الداخل إلى أسواق طرابلس اكتشاف الخلل فيها، ولاسيما في الأسواق المتخصصة ذائعة الصيت في المدينة، بعدما بات عدد قليل منها يحافظ على خصوصيته. أبرز الأسواق المتضررة هي سوق العطارين. هنا أصبح البحث عن العطارة المصنوعة يدوياً التي اشتهرت بها طرابلس صعباً جداً. محلان أو ثلاثة للعطارة ما زالت تصارع للبقاء وسط سوق اجتاحتها بشكل فوضوي محال بيع الأسماك واللحوم، فضلاً عن الخضر والفاكهة، والآلبسة والأحذية. عصام الشهال صاحب أقدم محال للعطارة يذكر كيف كانت السوق قبل نحو مئة عام. "كانو كل الناس يجو على السوق حتى يشمو روائح حلوة، وكان يجي لعنا من كل البلدان العربية، ناس تشتري عطورات يابسة يلي منطلعها من الزرع. كان الطب وقتها يعتمد على هل الأشياء كمان". اختلفت حال السوق كثيراً، ولا يزال الشهال الذي افتتح أبناؤه محالاً تجارية عدة في الأسواق الجديدة في طرابلس مثل شارعي عزمي ونديم الجسر، شاهداً على تبدل الأحوال وتغيرها في المدينة كلها. وهو شاهد كذلك، على انهيار جزء كبير من المباني والمنازل الأثرية في المدينة القديمة، والتي يعود بناؤها إلى الحقبة المملوكية، وذلك وسط صمت شعبي وسياسي مخيف. منازل غنية بالنقوش ولها أهمية تاريخية وعمرانية كبيرة، تتهاوى تدريجاً، من دون أن تجد من يصرخ للمحافظة عليها.


تبديد التراث


هذا الواقع المأسوي يتعمق مع انعدام غيرة عدد كبير من "أبناء البلد" على مدينتهم، وجهلهم لقيمة مبانيها التاريخية. إذ يكشف عمر، أحد العاملين في محل لبيع اللحوم في سوق العطارين معرفته بوجود عدد من الأشخاص الذين يقومون بسرقة المباني الأثرية. يقول عمر: "ليس خافيا على أحد أنّ هناك عدداً من الشبان يتسللون ليلا إلى داخل المنازل القديمة الملاصقة للمحال التجارية ويقومون بفك العقود الحجرية منها، بهدف بيع الحجارة بأسعار بخسة. كذلك يقومون بسرقة الكثير من الأبواب، والشبابيك، والمشربيات، والشمسيات الحديدية، ويفرغون أساسات المنازل لتسهيل انهيارها، ثم يدعون أنها تتهاوى ويطالبون البلدية بتدميرها".

وعلى الرغم مما تمثله طرابلس كمتحف تراثي حي، من خان العسكر، إلى بركة الملاحة، وسوق حراج، وخان الخياطين، وخان المصريين، وخان الصابون، وأسواق النحاسين، والبازركان، والكندرجية، والذهب، إلى ساحة الدفتردار، والحدادين، وصولاً إلى باب الرمل، يبقى 180 معلماً أثرياً من أصل 300 (بحسب إحصاءات بلدية طرابلس)، مسجلة على لائحة الجرد العام، ما يسهل عمليات الإعتداء على الأبنية غير المسجلة. ويوضح الشهال أن عدم الإكتراث لحالة الأبنية المتصدعة يغضب أصحاب المحال التجارية، و"نحنا ما رح نسكت بقا". يضيف: إذا كان المسؤولون لا يأبهون للإرث الثقافي الذي تختزنه تلك الأبنية، ألا يكترثون لأرواح الناس؟ هذه المباني إذا سقطت فستودي بحياة كثيرين، ولاسيما أن كل المحال التجارية تقع تحتها مباشرة. كما أنّ زحمة الناس هنا لا تخف، في العيد أو في غيره من الأيام. تبقى السوق للفقراء، وما أكثرهم في شمالنا".

increase حجم الخط decrease