وتحت هذا الواقع وفي مداره الذي يختزل مطالب وتمنيات القطاع العام، ككلّ، كان القرار المتأتي من سواد روابط وتجمعات المتقاعدين، بالعودة إلى الشارع مجدّدًا، وفرض مطالبهم بالقوّة، إن لزم الأمر؛ بل وتعطيل حتّى الجلسات الحكوميّة، إن لم تتحقق مطالبهم الأساسيّة والمتمثلة في ضمّ الحوافز إلى رواتبهم، وتحسين الأخيرة بما يتوافق مع غلاء المعيشة وارتفاع قيمة الدولار أمام الليرة، في القريب العاجل.
المساواة بين الجميع
وبعد أشهرٍ عن توقف التّحركات الميدانيّة، تداعت شتّى روابط وتجمعات القوات المسلّحة المتقاعدة، للتّظاهر في نواحي متفرقة من العاصمة بيروت، وفي مدينة طرابلس. وتلبية لهذه الدعوات، بدأت جموع المتقاعدين بالتّوافد إلى محيط وزارة المال وعدّة مؤسسات رسميّة محاذية للوزارة، منذ بواكير الصباح، وانتقلوا بعدها للتجمع أمام مبنى الضريبة على القيمة المضافة "TVA"، حيث وقف العشرات عازمين على إقفال المبنى. فيما قطع آخرون الطريق أمام مبنى الواردات في محلة بشارة الخوري.
بالتّوازي، كانت أعداد من المتظاهرين تتوافد باتجاه مدخل مرفأ بيروت في محلة الكرنتينا، بينما اتسمت الوقفة التّي حضرها جمع أوسع وأكبر من سائر الوقفات المندّدة اليوم، بتصعيدٍ عنيف، حين أشعل المتقاعدون الإطارات، للحؤول دون دخول أي شخص إلى المرفأ. الحركة نفسها قام بها العسكر المتقاعد في الشمال، الذين أحرقوا الإطارات أمام فرع مصرف لبنان في طرابلس، وعلى أوتوستراد البالما، ومستديرة النور، ما أدّى إلى زحمة سير خانقة على المسلّك الجنوبيّ المؤدي باتجاه بيروت، بحضور لافت لمتقاعدي الإدارات العامّة ووزارة التّربيّة.. بينما كان الشعار الأبرز، هو إزدراء وسّخرية مما تناوله بعض أصحاب القرار، في معرض تداولهم وبحثهم في تأمين السّبل لتحقيق مطالب المتقاعدين، واصفين إياهم بـ"غير المنتجين".
ومن العاصمة بيروت، التّي شهدت زحمة سير في مختلف نواحيها فاقت الزحمة المعتادة، توعد المتقاعدون الحكومة، بأن تحركهم اليوم، هو آخر الرسائل قبل الشروع في تنفيذ تدابير وتحركات ستشمل كل مواقع اتخاذ القرار. وجاء في نصّ البيان الذي عُممّ إبان انطلاق الوقفات: "بعد كل المماطلة والتّسويف من قبل الحكومة، لتصحيح الأجور وإعطاء زيادات على الرواتب لما تبقى من القطاع العام. ولما عرض المنبر القانونيّ لمتقاعدي القوات المسلّحة تصوره حول كيفية تطبيق العدالة والمساواة بين جميع القطاعات، عبر إلغاء جميع الزيادات والعطاءات وإعادة توزيع نسبة واحدة من القيمة الفعلية للرواتب قبل 2019. ولما لم تستجب الحكومة ولم تطلب لقاءات لبحث هذا الاقتراح.. يعلن تجمع العسكريين المتقاعدين عن قراره التحرك المتصاعد اعتباراً من الثلاثاء 6 شباط 2024... ويدعو التجمع عائلات العسكريين في الخدمة الفعلية والتقاعد وكل حر ومطالب بالعدالة والعيش الكريم مشاركة التجمع في التحركات حتى تحقيق المطالب".
تشرذم وتفرقة
ولا نُذيع سرًّا، إذا ما أشرنا لكون الوقفات (والتّي تابعتها "المدن" في مختلف أنحاء العاصمة) التّي نُفذت اليوم وبتوقيت وطقسٍ مشمس يلائم متطلبات القيام بتظاهرة حاشدة، تنطوي على مطالب شعبيّة تعكس مزاج وتطلعات شريحة واسعة من المتقاعدين من القطاع العام ومن كافة الأسلاك والإدارات والقطاعات، لم تستطع أن تحشد جمعًا غفيرًا، ذلك لا لشائبة في رغبة هؤلاء ومطالبهم، بل يعزو مراقبون أن شعبية مثل هذه التّظاهرات قد خفتت، بعد سنوات عن عمر التّحركات الميدانيّة المطلبيّة، التّي لم تُثمر أي تغيير يُذكر. هذا وناهيك بتشرذم التجمعات، التّي لم تجتمع يومًا على مطلبٍ أو عنوان أو خطاب. بل ويسودها جوّ من التفرقة والتّحزب وتباين وجهات النظر.
التّوجه القانونيّ
وبالنظر إلى الواقع الحالي، ارتأى جمعٌ آخر من المتقاعدين، الذين أنهوا توًّا وفي غضون السنوات الثلاثة الأخيرة خدمتهم في القوات المسلّحة ومن مختلف الأسلاك (قوى الأمن تحديدًا، الجيش، الأمن العام..)، الذهاب بمذهب يشذّ عن السّائد في الحركة المطلبيّة للمتقاعدين، حيث باشروا بصياغة نصّ شكوى بغية تقديمها إلى مجلس شورى الدولة، قريبًا، غايتها فرض تعديل قيمة التعويضات بما يتماشى مع ارتفاع قيمة الدولار مقابل الليرة، تكون فيها الدولة ملزمة بالتّعديل ودفعه في حال صدور قرار مجلس الشورى. في إشارةٍ لكون الرواتب لم تعد تعنيهم، بل إعادة ما سُلب منهم من رساميل ومبالغ ماليّة، وعدوا بها سابقًا أثناء خدمتهم، كفيلة بإعادة التّوازن والتعويض عن التدهور المعيشي، وخلق فرص جديدة للاستثمار.. وعلمت "المدن" أن عددهم بلغ 500 متقاعد حتّى اللحظة، بعد إطلاق التّجمع بأربعة أيام.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها