الأحد 2023/09/17

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

سيرة النبيذ اللبناني مع "كساره": العراقة اليسوعية والأقبية الرومانية

الأحد 2023/09/17
سيرة النبيذ اللبناني مع "كساره": العراقة اليسوعية والأقبية الرومانية
مع كساره كان إنتاج أوّل نبيذ جاف أحمر في لبنان (لوسي بارسخيان)
increase حجم الخط decrease

لا يكتمل الحديث عن صناعة النبيذ اللبناني (راجع "المدن") من دون التوقف في محطة كساره. هنا "التاريخ نُسج مع الإسم، ليولّدا معاً إرثاً لبنانياً حديثاً"، جعل من كساره وجهة سياحية، حلّت في العام 2019 بالمرتبة الثانية بعد قلعة بعلبك الأثرية.

ولكن إذا كان من الطبيعي أن يسبق التاريخ الذي تحتضنه كساره نشأة خماراتها، لا بد من الاعتراف أن هذا التاريخ المختزن في أقبيتها الرومانية، لم يكتشف إلا بفضلها. وهذا ما يصعّب على زائر المكان معرفة فضل أحدهما على الآخر، هل هو فضل الخمارة في الإضاءة على هذه الأقبية، أم أن هذه الأقبية هي التي منحت "كساره" سحرها.

سحر المكان
تقترب خمور كساره حالياً من مئويتها الثانية. فعمرها أصبح 166 سنة من الإنتاج غير المنقطع للنبيذ. ومع أن ملكيتها إنتقلت في سبعينيات القرن الماضي من الرهبان اليسوعيين إلى المساهمين اللبنانيين، لا تزال تدار بالشغف ذاته الذي رافق مسيرة تطور هذا المنتج من قرن إلى آخر.

وعليه فإن تخلّي الأباء اليسوعيين عن الخمارة لم يكن سهلاً، بل يحكى ان أحدهم ممن أداروا الخمارة لـ30 سنة بكي يوم بيع "الكاف" لمالكيه الجدد، تماماً مثلما حُبست دموع رانيا شماس مسؤولة قسم التواصل والتسويق في الكاف منذ سنة 1994، عندما سألناها عن العلاقة التي تربط موظفي كساره بمكان عملهم.

ليست وظيفة، هي شغف مقرون بسحر هذا المكان، يترافق مع حماسة يومية لاكتشافات جديدة في كل يوم. وهذه الاكتشافات تحمل أسرار صناعة، توارثها من تعاقبوا على صنع هذا الـشراب المرافق للاحتفاليات، وحتى الدينية منها. أما بالنسبة لنا، فقد رافقنا هذا السحر في زيارتنا لخمارة كساره، بعد أن استمعنا أولاً لقصتها من رانيا، مزودين بكتاب صدر لمناسبة اليوبيل الـ150 لاكتشافها قبل 16 سنة تقريباً، وكان مرجعاً إضافية متمماً للسردية، بالإضافة لقراءات خاصة من مراجعنا الزحلية.



اليسوعيون والعثمانيون
نعود بالزمن إذاً إلى ما قبل العام 1857 عندما أرادت مجموعة من الرهبان اليسوعيين صناعة نبيذ بجودة عالية. وجد هؤلاء الفرص والإمكانيات في أرض البقاع نفسها، بما تحمله من غنى تاريخي، وتنوع في المناخ، ونوعية التربة وغزارة مياه تشكل عوامل مثالية لنمو الفاكهة الجيدة، مع أن الكثيرين كانوا غير مقتنعين بذلك.

في تلك المرحلة ورث أحد الأباء اليسوعيين ويدعى "روسو" أرضاً مساحتها 25 هكتاراً بين كساره وتعنايل. فقدم روسو الأرض للأباء اليسوعيين، الذين باتت لهم الخميرة الأولى لينطلقوا بإثبات وجهة نظرهم. ويحكى أيضاً أن الرهبان سعوا لتأمين دخلاً ثابتاً للاستمرار برسالتهم التبشيرية في المنطقة. فاشتروا أراضي كساره من الأمير بشير أحمد اللمعي وبعض مشاريع آل جميل، وزرعوها بالتوت والحور والعنب. ثم أضافوا مساحات هذه الأرض في العام 1860 من خلال شراء أراض مجاورة للملكية الأولى، وكانت تحوي خاناً قديماً، ومقلع حجارة ونبع ماء وفير.

لم يكن حكم السلطنة العثمانية والمحاذير التي كانت تفرضها على صناعة الخمور لتعيق طموحات الرهبان اليسوعيين، فهم كانوا ينتجون حينها النبيذ الحلو vin doux لإستخدامات كنسية.

ومع أن أحداً لم يتوقع إنهيار السلطة العثمانية، فإن زوالها أطلق الأيدي لهذه الصناعة، بعد أن كانت قد أرسيت القواعد العلمية التي سمحت بإنتاج أوّل نبيذ جاف أحمر في لبنان، وضع أول غرسة لتجذر هذه الصناعة في تراث منطقة البقاع، قبل أن يبدأ تصدير الإنتاج للخارج.

تهريب النصوب
إلا أن الثورة الحقيقية في هذه الصناعة لم تبدأ سوى مع إدخال أنواع العنب المثالية لصناعة النبيذ. وقد أطلق هذه الثورة الأب كيرن اليسوعي. فهو من اكتشف في أرض كساره إمكانيات مغرية، جعلته يجتهد لإقناع مالكيها بزراعة العنب الخاص لصناعة النبيذ.

أحد المراجع يذكر بأنه حتى الثمانينات من القرن التاسع عشر، كانت نصوب الكرمة المعروفة في زحلة بالنوع المحلي ذي الجذوع الطويلة، وتمتاز داليتها بأنها تأخذ مساحة كبيرة، وتحتاج إلى كثير من المساميك لترفعها عن الأرض. إلا أنه لما كانت خمورها محدودة الجودة، استقدم الآباء اليسوعيون إلى المنطقة أنواعاً من النصوب لم تكن معروفة في زحلة، وزرعوها في مناطق مناخية مشابهة للمناطق الفرنسية، في كسارة وجديتا وتعنايل، وقد أطلق الأهالي على هذا العنب تسمية الزيتوني لأن حبته تشبه حبة الزيتون واستدارتها.

ومما يروى ان الأب كيرن حاول معالجة النصوب المحلية في كساره على الطريقة الفرنسية، ولكنه حصل على نتيجة سلبية جعلته يقرر استيراد نصوب فرنسية. ولما كانت الحكومة العثمانية تمنع استيراد الأشجار المثمرة من الخارج، مخافة تسرب مرض الفيلوكسيرة معها إلى البلاد، وهي حشرة تعيش على الجذور فتمتصها وتميت الشجرة ، فقد عمد الأب كيرن إلى تهريبها سراً إلى كساره. ولكنه ما كاد يزرع بعضها حتى انتشرت شائعة تتهم الآباء اليسوعيين بأنهم يدخلون مرض الفيلوكسيرة مع نصوبهم، فكانت النتيجة ان إنقض الكرّامون على النصوب فأتلفوها. ومع ذلك تمكن الأب كيرن من إخفاء بعض هذه النصوب مموهة بين نصوب الكرمة المحلية، فما حلّت سنة 1883 حتى كانت هذه النصوب قد عمّت الناحية الشرقية من كروم كساره. واذ تأكد للكرامين المحليين خلو هذه النصوب من المرض وعطائها الجيد، وجودة خمورها وتبكير مواسمها، حتى راحوا يبحثون عنها بكافة السبل ويحلونها محل دواليهم القديمة.

توفي الأب كيرن الذي أصبح لاحقاً رئيساً لرهبانيته، في العام 1887. وخلفه الأب Bernarder الذي أكمل المسيرة وأسس كنيسة مجاورة للخمارة، لا تزال تعرف بكنيسة الفونس رودريغز Saint Alphonse Rodrigues.



الكهوف الرومانية
تُكتشف الكهوف الملاصقة للخمارة بعد عشر سنوات تقريباً وتحديداً في العام 1898 ويتبين لاحقاً أنها تعود للحقبة الرومانية. مع أنه لا دراسات دقيقة حول حقيقة استخدامات هذه الكهوف في العصور السابقة، يشكل "الكاف" حالياً قيمة مضافة في كساره. وقد تم إكتشافه عن طريق الصدفة عندما كان أطفال في الميتم الذي يديره الآباء يحاولون مطاردة ثعلب كان ينقض كل ليلة على دجاجات رهبانيتهم. وكان واحداً من هؤلاء الفتيان جان غاريوس، الذي صار راهباً في الدير إلى أن توفي عن 94 عاماً سنة 1976 .

قبل تاريخ اكتشاف الكهف وتوسعته، كان تأسيس الأقبية عملاً شاقاً ومكلفاً جداً. ويحكى أن فرحة الأباء الفرنسيين بالاكتشاف لا توصف. إذ أنهم لم ينفقوا سوى بضعة آلاف من الفرنكات لاختراق الأنفاق، بينما اليهود في فلسطين كانوا يبددون ثروة لتأمين ظروف مناخية مشابهة بحرارتها ورطوبتها لحفظ النبيذ.

خلال الحرب العالمية الاولى فر الكثير من الشبان الزحليين من الخدمة الإلزامية، فالتجأوا إلى الرهبان اليسوعيين الذين آووهم، فقابلوا الأمر بأن ساهموا بحفر الأنفاق وتوسعتها، حتى باتت تعرف بما هي عليه حالياً.

على مسافة 1800 متر تقريباً، تمتد مغاور هذا الكهف. وهو حسب رانيا شماس، يؤمن أفضل ظروف تعتيق الخمر. فالحرارة هنا مستقرة على 12 إلى 13 درجة طيلة أيام السنة. والرطوبة تتراوح بين 80 و85 بالمئة. وهذه العوامل هي التي سمحت لكساره بأن تحفظ النبيذ الأحمر المعتق منذ سنة 1918، يتعرف إليها زائر الخمارة خلف قضبان الحديد التي تفصلها عن باقي أجزاء الكهف. كما أن هناك أنواع نبيذ حلو معتق منذ الأعوام 1935 و1937. علماً أن أقبية كساره تجمع حالياً نحو مليون قنينة من أنواع النبيذ المصنوعة عبر الأعوام لتعتق.

العصر الذهبي
بعد سنوات قليلة من اكتشاف الكهف، في العام 1902 تحديداً، بنى الرهبان اليسوعيون أوّل مرصد مناخ وجدوا حاجة له لدراسة العوامل المناخية بدقة. إلا أنه خلال الحرب 1975-1976 ومع دخول الجيش السوري إلى لبنان، تعرّضت تجهيزات هذا المرصد للسرقة والتخريب. ومع ذلك حافظت الإدارة الجديدة لكساره على بنيته، وقد بقيت ذكراه موجودة على أنواع النبيذ التي حملت تسمية l’observatoire.

إنتهاء عهد السلطة العثمانية وبداية الانتداب الفرنسي كان العصر الذهبي لكساره. خصوصاً أن النبيذ شكّل حاجة ملحة للجنود الفرنسيين الذين يدخل النبيذ كجزء من حميتهم الغذائية. حينها كانت زراعة العنب الخاص بصناعة النبيذ قد بدأت تزدهر، وقد شجّعت فرنسا هذه الصناعة على طول مساحة البقاع بدءاً من جديتا إلى رياق.

وهكذا تهيأت أمام النبيذ اللبناني كل الظروف ليشق طريقه نحو العالمية. إلا أن الطابع التجاري الذي اتخذته هذه الصناعة مع الوقت، لم يكن مرضياً للفاتيكان. وعليه، عندما شجّع الرهبان على بيع ممتلكاتهم التجارية في مطلع سبعينيات القرن الماضي، كان على الآباء اليسوعيين تنفيذ رغبات سلطتهم الكنسية.



المساهمون الجدد
كانت كساره حينها قد بدأت تنتج 1.5 مليون قنينة نبيذ سنوياً، وقد شكل ذلك 85 بالمئة من انتاج لبنان عامة. وعليه القرار بالنسبة للرهبان لم يكن سهلاً. وكانت المخاوف كما التساؤلات كبيرة حول مصير "الشركة الكبرى" التي باتت تعرف بثاني شركة تؤسس في لبنان بعد شركة غندور. وهذا ما جعل الصحافة تهتم بما ستؤول إليه الصفقة. فيما رأى الناس في عملية البيع عملاً مجنوناً.

أما بالنسبة للمساهمين الجدد، فإنهم كانوا مدركين بكونهم لا يشترون فقط أكبر مؤسسة منتجة للنبيذ في الشرق الأوسط، إنما مع الخمارة يتملكون تاريخ المكان وروحيته. ولذلك كانوا يعلمون بأن دراسات الجدوى الاقتصادية الممتازة للصفقة ستحملهم أيضاً مسؤولية الحفاظ على الدور الذي مضت كساره به، وهذا ما جعلها تصمد في وجه كل الأعاصير التي واجهها اللبنانيون منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم.

من بين المساهمين الأوائل في "كساره" كان جان بيار ساره وعادل قصار. وكلاهما كانا تلميذين للآباء اليسوعيين، وقد وجدا في الصفقة فرصة لا تفوّت. بالنسبة لجان بيار -كما يرد في الكتاب الذي صدر لمناسبة 150 سنة على عمر كساره- فإن شراء الخمارة كان قدراً. حيث وجد في إسم KSARA ما يجمع بين إسم جده خليل KHALIL وعائلته ساره SARA.

مع الفريق الجديد جمعت كساره بين التاريخ وحداثة التجهيزات، وهي بقيت وفية للمصنعين الأوائل الذين حُفظت أسماؤهم على خزانات الإنتاج، ومن خلال قصة هذا المكان التي تحرص على تعميمها وحفظها في الذاكرة الشعبية المسموعة والمقروءة. بالمقابل فإن الإدارة الجديدة وضعت الكثير من الاستثمارات في تحسين المعدات، وتعزيز الموارد البشرية. ومع أن معركتها في إقناع المزارعين بالاتجاه نحو أنواع العنبnobble grapes  لم تكن سهلة، إلا أنها نجحت فعلا بالتحكم بكل أنواع العنب التي تستخدمها في صناعتها والتي حازت كلها على شهادة أيزو.

سياحة النبيذ وثقافته
كانت فترة الحروب اللبنانية مرحلة سوداء بتاريخ كساره، انخفضت معها المعنويات حتى لدى الشركاء. في هذه الفترة تبدلت الملكيات وأحجامها، وأصبح ظافر الشاوي مالك أسهم إضافية في كساره. البعض اعتقد انه مجنون مغامر ليشتري المزيد من الأسهم خلال فترة الحرب. ولكنه بقي مقتنعاً بالإمكانيات المتوفرة في هذا المكان، وكان ينظر إلى كساره كربح معنوي. حتى أنه أعاد ترميم مقر مرصد الطقس الموجود في المكان، وحوّله مقر إقامة صيفية، أقام فيه زفاف أحد أبنائه، مستفيدا من سحر المكان الذي يتضاعف استقطابه للزوار على رغم كل الظروف.

رؤيا الشاوي تبين أنها صحيحة. فكساره اليوم تنتج نحو ثلاثة ملايين قنينة نبيذ سنوياً، ويتنوع إنتاجها بين سبع أنواع من النبيذ الأحمر، أربعة أنواع من النبيذ الأبيض، وأربعة من الزهري، بالإضافة إلى الكونياك والعرق.. وهي أيضاً تصدر إلى 35 بلداً في العالم.

أما أقبيتها فقد استضافت بين عامي 2018-2019 أي قبل جائحة كورونا نحو مئة ألف زائر، وهي بدأت تستعيد أعداد الزائرين بعد إنتهاء الجائحة، ولذلك عملت على تأهيل بنيتها التحتية بما يتلاءم مع استضافة هذه الأعداد من الزوار.

برأي رانيا، فإن أبرز مقومات هذا النجاح سياحياً، هي أن كساره تدير واحداً من أجمل الكهوف في العالم، ويشكل موقعه على خط بعلبك واحداً من عوامل الاستقطاب الأساسية، بالإضافة إلى الاهتمام المتزايد للناس بزيارة الخمارات، وإلى كون كساره تؤمن النبيذ الطيب.

وهذا ليس كل شيء. فكساره تلعب اليوم دوراً أيضاً في تعميم ثقافة النبيذ من خلال دورات WSET وهي مختصر لـWINE AND SPIRIT EDUCATION ومركز هذه التدريبات في بريطانيا، وتقدم بلبنان في كساره فقط، وينال على أثرها المتدربون شهادات طبقاً لمستويات التدريب الثلاثة أي level 1-2-3.

وهذه التدريبات تمنح أيضاً لبعض الشبان الذين يرغبون بإكمال فترة التدريب الإلزامية لإختصاصاتهم الجامعية في كساره، وخصوصاً إذا رغبوا بأن يعملوا في المكان لفترة تساعدهم في تسديد أقساطهم الجامعية. وهذا ما يضع كساره أيضاً على خط تعميم ثقافة النبيذ، بعدما بات موقعها محجوزاً في لائحة الخمور العالمية، وعلى خط السياحة المحلية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها