الأحد 2023/09/10

آخر تحديث: 11:51 (بيروت)

سيرة نبيذ زحلة وخماراتها(1): آل بران وسلالة الشغف

الأحد 2023/09/10
سيرة نبيذ زحلة وخماراتها(1): آل بران وسلالة الشغف
DOMAINE DE TOURELLES الخمارة الأقدم في لبنان (لوسي بارسخيان)
increase حجم الخط decrease

في ظل التنافس الذي يخوضه لبنان للإنسياب بإنتاج النبيذ إلى الأسواق العالمية، بدت لافتة الدعوة التي وجهتها رئيسة اتحاد مصنّعي النبيذ، ميشلين توما، خلال مهرجان "ليالي النبيذ والعرق" في زحلة، لزيارة الخمارات والتعرف إلى قصصها. فالدعوة قد تكون مشوّقة لتشريع أبواب سياحة النبيذ على مصراعيها. إلا أن مقاربة المنتج هنا تتطلب شغفاً متوازناً بين صانع النبيذ ومحتسيه. وهذا الشغف على ما يبدو دخل كعامل أساسي في تسويق الإنتاج اللبناني، سواء محلياً أو عالمياً، وهو بالتالي يشكل الحافز الأساسي للتنافس على تطوير الإنتاج والتميّز بأصنافه.

حققت صادرات النبيذ اللبناني في المقابل أرقاماً قياسية في التصدير، وصلت قيمتها بين عامي 2020-2022 إلى 31 مليون دولار وفقاً لإحصاءات مديرية الجمارك.

ولدى سؤال المنتجين عن الركائز التي ساعدتهم في إختراق أسواق تبدو إمكانيات المنافسة بالسعر الأدنى فيها شبه معدومة، يتحدث هؤلاء عن نوعية إنتاج تحددها طبيعة الأرض والمناخ الذي ينمو فيه العنب، ولكن أيضاً عن القصص الرومانسية التي رافقت ولادة النبيذ اللبناني في بعض خماراته.

في داخل كل منا حنين لمثل هذه القصص الرومانسية. ولكننا عندما حاولنا تتبعها بين خمارة وأخرى، اكتشفنا أيضاً كفاح عائلات، وشغف متوارث بين أجيالها، إلى أن وصل الجيل الحالي مسلحاً بالثقافة وحب المعرفة ومغامرة التجربة، مقروناً بتضافر عائلي، سمح لكل من يحرر "قنينة نبيذ" من "فلينتها" بتجربة فريدة. وفيما يلي بعض هذه القصص التي تعرفنا إليها من أصحابها:

عن إبن البران الفرنسي الذي اخترق صناعة العرق المحلي
DOMAINE DE TOURELLES هو الأقدم بين أنواع النبيذ التي تناولناها في جولتنا. أما خمارته فلا شك أنها من الأقدم لبنانياً.

بدأت القصة مع فرنسوا بران، الذي عطش إلى نبيذ بلاده عندما حضر إلى لبنان من ضمن بعثات فرنسية لاستحداث سكة الحديد بين بيروت ودمشق. بحث عن طلبه بين إنتاجات الإرساليات اليسوعية، وكانت الأخيرة محظرة من بيع الإنتاج، بأمر من الفاتيكان. وهذا ما دفع ببران لإنشاء خمارته.

تروي كريستيان عيسى أن "تشييد الخمارة بدأ في سنة 1865 وانتهى في العام 1868، ليستكمل البناء في بدايات القرن العشرين بسطح القرميد الذي كان قد بدأ يغزو أسقف البيوت الحجرية القديمة في تلك الحقبة، بالتزامن مع تحول النبيذ المنتج في الخمارة علامة تجارية.

كانت مسألة إنشاء خمارة علنية تنتج النبيذ خلال الحقبة العثمانية مسألة حساسة جداً. ومع أن هذه الحقبة ازدهرت بالصناعة البيتية للعرق، فقد بقيت معظم الكركات حينها تختبئ في المنازل، وتحافظ على سرية العمل. إلا أن عائلة بران مضت بمشروعها، وأمنت انتقاله إلى الجيل الثاني الذي بدأ مع لوي بران إبن فرنسوا بران.

أغرم لوي بطعم العرق، فتعلم تصنيعه من أهل جديتا، وكان هؤلاء يبدعون به كما أهل زحلة، ويصنعونه من عنب العبيدي الذي كان ينتج بغزارة في تلك الفترة. ولكن عندما انتشر خبر إنخراط لوي بران بصناعة العرق، هزء البعض بفكرة أن ينتج "إبن بران الفرنسي" العرق اللبناني وبقوا يرددون "بران وبده ينتج عرق؟" إلى أن بات هذا العرق يعرّف باسمه التجاري "بران".



ورث بيار بران الخمارة عن لوي. وكان شخصاً شديد الحساسية، أغرم بمارغريت شدياق "ماركو" التي تكبره بـ13 سنة، ولم ينجبا أولاداً. شغفه في صناعة النبيذ جعل من "دومان دو تورال" أول مصنع للنبيذ الزهري في لبنان في العام 1964. إذ تجزم كريستيان أنه قبل هذا التاريخ لم يكن يوجد إنتاج للنبيذ الزهري في لبنان، ومن هنا كان حرص "TOURELLES" على إنتاجه بنفس المواصفات والطعم الحد "aggressive" الذي يتميز به. إلا أن لوي بران اختصر عمل خمارته في سنوات عمره الأخيرة، ولم يعد ينتج سوى العرق، بالتزامن مع مضيه في وهب ممتلكاته، وخصوصاً الأراضي الزراعية والعقارات إلى الكنائس والأديرة.. مغفلاً كتابة وصيته فيما يتعلق بالخمارة والمنزل الذي يجاورها. وهكذا عندما توفي بدأ البحث في شجرة العائلة عن ورثة له، إلى أن عثر على شخصان أجنبيان يعيشان في الخارج.

كان من الطبيعي أن تتفتح عيون "الخمرجية" على خمارة بيت بران لما تختزنه من تاريخ وفن في العمارة يعكس وجهة حضارية، حيث كان المنزل الملاصق الذي قطنته العائلة أقدم من الخمارة، وقد اشتراه فرنسوا بران من زوجين سويسريين بعد مقتل الزوج وقرار الزوجة بأن تغادر البلاد.

ولكن في مقابل مسارعة ورثة بران الفرنسيين لبيع الممتلكات التي ما عنت لهم شيئاً، وجد فيه مالكوه الجدد قيمة "معنوية" قبل المادية. وعليه جهد لشرائه كل من المهندس المعماري إيلي عيسى والمحامية نايلة عيسى الخوري، اللذين كانت تربطهما علاقة قربى بزوجة بران، ماركو، وكانا يترددان إلى الخمارة مع أولادهما، ليملآ أرجاء الحديقة، خصوصاً في الأعياد.

في عام 2000 انتقلت ملكية الخمارة وجوارها إلى المالكين الجدد. وانطلق هؤلاء في إدارة الإرث الذي خلفته عائلة بران، بواسطة أبنائهم من الجيل الشاب. كانت كريستيان عيسى أوّل من انخرط منهم بعمل الخمارة وتفاصيلها مع والدها إيلي عيسى، الذي كان أول من أدخل العرق المخمر لخمس سنوات في الخوابي القديمة. فحافظ هؤلاء على إسم العرق وخصوصية الإنتاج، وأطلقوا مجدداً صناعة النبيذ بروحية عصرية، واحترافية في الإنتاج، سمحت بتصدير 40 بالمئة منه إلى الخارج.



تشغل كريستيان حالياً المكتب الذي كان مخصصاً لبيار بران. تشعر برابط أقوى من الخمارة بينهما، هو الرابط الروحي مع الأم تيريزيا التي نذرت لها كريستيان نفسها، من أجل خدمة الأكثر فقراً ومساعدتهم، واكتشفت أن بيار بران كان متعبداً لها أيضاً. وعليه هي تحتفظ في مكتبها بكل ما اقتناه بران، وحتى صورته التي تحفظ سر حزنه الكبير على شقيقه.


إنضم فوزي عيسى إلى شقيقته في المعمل بسنة 2008، بعد أن جعله تعلّقه بالأرض يكمل دراسة الهندسة الزراعية في الجامعة الأميركية ببيروت، خلافاً لرغبة والده الذي كان يريده مهندساً معمارياً مثله. وفي سنة 2008 بات أوّل خمرجي لبناني يعمل في "تورال"، وإبن العائلة التي بدأت تطور إنتاجها، لتقدم أجود الأنواع التي أدرج أحدها في كتاب يصدر كل سنتين حول أفضل 101 أنواع نبيذ يجب أن يتذوقها الإنسان قبل وفاته.

ومع عودة فوزي إلى الخمارة حاول أن يسترجع أيضاً الأراضي التي وهبها البران إلى الكنائس، وبالفعل تعاقد معها على ضمانها في زراعة العنب، بالإضافة إلى بحثه عن التنوع في مواقع الكروم الذي يؤمن التنوع في الطعم، وباتت حالياً كروم "تورال" تشغل مساحة مئة هكتار.

بالإضافة إلى ذلك عمل فوزي على تأمين التميز من خلال أنواع العنب اللبناني التي يتجاوز عمرها السبعين سنة، واضعاً منتجها في خانة الـOLD WINES التي تقدمها تورال. وقد استرعت إحداها من "السانسو" أو العنب الزيتوني إهتمام أحد المتخصصات في هذا المجال master of wine التي كتبت أربع جمل عنه خلال مشاركة "دومان دو تورال" في معرض للخمور بدوسيلدورف، وهذا ما جعل الإنتاج يفرغ من أسواق الخارج حتى قبل أن يعرّف عن نفسه في لبنان.



فخورة تبدو العائلة بفوزي الذي تتحدث عن شهرته في الخارج. وتعتبر أن حبه للأرض يعكس شغف العائلة وقصة الحب التي تعيشها مع إنتاجه. وهو الشغف الذي يجعلها تبحث دائماً عن فرص الاستمرار والتطور، من خلال تقديم منتجات تراعي متطلبات السوق اللبناني والخارجي، وخصوصاً خلال الأزمة التي شجعت عى خوض مغامرة إنتاج "الجين" والتعبئة المحلية للويسكي الاسكتلندية.

بعد الاستماع لهذه القصة يبدو التنقل بأرجاء الخمارة وملكيتها بمثابة رحلة غنية بالرائحة والطعم واللون، في قالب تراثي يحمل تنوعا في حكايات أشخاص كان لهم فضل فيما وصلت اليه "تورال" حالياً. بدءاً من "البوتيك" الذي يعكس ثقافة بيئية، إلى غرفة جلوس بيار بران التي تختزن جزءاً من مسيرة الخمارة ومؤسسيها الأوائل، فالأقبية التي تمتلئ بمئات الخوابي الفخارية من صناعة آخر الفوخرجية ببيت شباب، فوزي الفاخوري، لتبقى ذكراه حاضرة هنا مع صورته. مروراً بحديقة الخمارة وأشجارها المعمرة من التيول إلى الجوز، وصولاً إلى المنزل الذي أقامت فيه عائلة بران، حيث لا تنتهي الاستكشافات، وآخرها بيت نار حجري قديم كان يستخدم كفرن.

(يتبع..)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها