ومنذ ذلك المساء تواصلُ بيروت إعتامها وبؤسها وخواءها، ليس لأن لقمان لم يصل إليها وغادرها غصبًا كثيرون من أمثاله، بل لأن لبنان كله يواصلُ انحداره في الهوّة المعتمة، بهمةِ أمثال قاتليه بكاتم الصوت والضوء والكلمات. ومنفذو عملية إعدام صوته وكلماته والضوء في عينيه محترفو قتلٍ وترويع. وإلا لكان أحدٌ منهم أخطأ هدفه أو ارتكب هفوة ما، ولو في عمليةٍ واحدة من تلك العمليات المتشابهة الكثيرة التي أعدمتْ أصواتًا تشبه صوت لقمان سليم أو تختلف عن صوته.
ومن هؤلاء شخص شيوعي منسيّ، ويشبّهه أصدقاؤه القدامى بمسيح طيّب، عتيق وساذج، اسمه ميشال واكد. وربما يعرفه لقمان. فمنزلاهما متقاربان في حارة حريك. وخُطفَ ميشال وأُعدِمَ ورُميت جثّته على شاطئ الرملة البيضاء في الثمانينات. ويقول أصدقاؤه إنه كان بسذاجته ونكرانه ذاته يدعو بقايا أهالي حارة حريك المسيحيين، إلى البقاء في أرضهم ومنازلهم ويشجعهم عليه، فلا يغادروها ولا يهجروها إلى ديار الصفاء الديموغرافي المسيحي في كسروان.
أما الإعدامُ الأحدث عهدًا بكاتم الصوت والصور، فقد أصاب جو بجّاني المشهورة صور إعدامه في سيارته صباحًا في بلدته الكحالة، غير البعيدة من حارة حريك، وتكثر فيهما حوادث القتل، منذ تحوّل لبنان حقول قتل وخطف وترويع منذ العام 1969.
حقول القتل
وحقول القتل اللبنانية أو الملبننة مذّاك دمّرت مدنًا وبلادًا، وحوّلتها ديار اقتلاع وتهجير وهجرات. لكن لقمان سليم وشقيقته رشا عادا من باريس في عتمات الثمانينات البيروتية، وفتحا منزل العائلة العتيق في حارة حريك، وأنشأا دارًا لنشر الكلمات في كتب أنيقة. ومذّاك لا يزال ذاك المنزل محترفًا مشرّعًا للنشاط والأفكار والعمل وإطلاق المشاريع ضد حقول القتل والإعدام والاغتيالات.
لم يعد لقمان هنا، لكن البيت-المحترف مستمر على حاله، كأنما الغائب المدوّن اسمه هناك على بلاطة في الحديقة، أمسى غيابه إرادة حضور مضاعفة في زوجته مونيكا بورغمان وشقيقته رشا وسائر الأصدقاء وزملاء العمل القدامى والجدد، أمثال هناء جابر التي هزّها قتل لقمان، فأتت من باريس لتنضم إلى فريق العمل في المحترف، للبحث والتوثيق والتفكير ودمج العمل الثقافي بالشأن العام. وتقول جابر إن ما حدث للقمان هزّ كثيرين تعرفهم خارج لبنان، لبنانيين وغير لبنانيين، فتداعوا لتبادل أفكار في ما يمكن عمله واستئنافه لمتابعة مشاريع كثيرة بدأها لقمان في "أمم للبحث والتوثيق".
وعُقدت لقاءات جرت فيها مداولات في لبنان وخارج لبنان، وشارك فيها باحثون لبنانيون وعرب وأجانب، عنوانها مسألة الاغتيال السياسي والإفلات من العقاب. وروت مونيكا بورغمان أنها عملت في التسعينات على تقصّي مسألة الاغتيال السياسي في الجزائر. وهي تعدّ للترجمة من الفرنسية مقابلاتٍ جرت مع سعيد مقبل مدير صحيفة "الصباح" الجزائرية، وروى فيها تفاصيل عمليات قتل واغتيال، قبل اغتياله هو شخصيًا في العام 1994 أثناء العشرية الجزائرية السوداء. لكن بورغمان شدّدت على أن عملها آنذاك ومع لقمان في لبنان لاحقًا، كان من موقع الرائي والشاهد، لكنه تحوّل إلى موقع آخر بعد غياب لقمان: لقد صارت معنية شخصيًا وعلى نحو مؤلم ومباشر في تقصّي عمليات الاغتيال وتوثيقها ونشرها، بوصفها عملًا ثقافيًا وسياسيًا وأداةً سياسية.
وكان لقمان سليم في "أمم للأبحاث والتوثيق" من أوائل من شرعوا في توثيق بعض وقائع الحرب ووجوهها في لبنان، ومنها الاغتيالات في ما سمّاه "ديوان الذاكرة"، وتحت عنوان "مَنْ قتل مَنْ؟". وإذا كان قد جمع وثائق وسِيَرًا وصورًا وكتابات صحافية واستقصاءات ومقالات عن 80 شخصًا اغتيلوا في لبنان، فإن اسمه أضيف إلى تلك الأسماء التي يجب أن تتكاثر، ما دامت هذه البلاد حقولًا للقتل من لبنان إلى سوريا إلى العراق، أقلّه منذ خمسينات القرن العشرين. وهي كلها أعمال غير موثّقة وتحتاج إلى ورش عمل وأبحاث لتوثيقها، للكشف عن دور القتل والاغتيالات في حياة هذه المجتمعات السياسية.
مؤسسة لقمان سليم
وهكذا ولدت فكرة إنشاء "مؤسسة لقمان سليم" التي تُعنى بالتوثيق والبحث والتقصّي وعقد مؤتمرات وتنظيم حملات تتعلق بالاغتيالات السياسية. لكن لتحويل هذا العمل البحثي والتوثيقي إلى نشاطات وتظاهرات ثقافية وسياسية مباشرة. وهذا عمل متشعّب يطاول حوادث الإخفاء القسري، الخطف، التعذيب، السجن، المقابر الجماعية، الإعدامات، الإفلات من العقاب.. وهذه كلها من صلب الثقافية السياسية في المنطقة.
فمعمّر القذافي مثلًا، كان منذ بدايات استيلائه على السلطة في ليبيا سنة 1969 قد أعدم بعض مناوئيه السياسيين في بنغازي، وجعل من عمله ذاك مناسبة سنوية سمّاها "عيد الشنق"، على ما روى باحث لبناني مقيم في روما ويتعاون مع "مؤسسة لقمان سليم"، وحضر لقاءاتها التمهيدية إعدادًا لإطلاقها في الذكرى السنوية لاغتيال لقمان. ومن أفعال القذافي أيضًا أنه صرّح علنًا بعزمه على قتل المعارضين الليبيين في الخارج. ما يعني أن سياسات القتل ليست سرية، بل هي من صلب العمل السياسي، وجعلها مقبولة ومستساغة جماهيريًا.
والقتل عمل سياسي مشروع أو مبرر في المجتمعات العربية. فماذا تكون الحروب الأهلية سوى أعمال قتل جماعي في الثقافة السياسية الحزبية والأهلية والجماهيرية، وتسليط القتلة على المجتمع، والأموات (الشهداء) على الأحياء؟ وماذا يمكن أن ينجم عن ذلك سوى الإفلات من المحاسبة والعقاب، وتدمير مؤسسات الأمن والقضاء في دولٍ هي أصلًا أشباهُ دول؟ وما يحدث اليوم في لبنان على الغارب وفي كل يوم، ليس سوى دليل فاقع على ذلك كله.
وما تسعى إليه "مؤسسة لقمان سليم" هو بلورة مثل هذه الموضوعات المتشعّبة، وإشراك مؤسسات بحثية عربية ودولية في هذه الأعمال، وخلق شبكات تعاون، وإطلاق مشاريع توثيق وأبحاث واستقصاء، وخصوصًا في لبنان وسوريا والعراق. هذا إضافة إلى عقد مؤتمرات وورش عمل يشارك فيها محامون ورجال قانون وجامعات ومؤسسات مجتمع مدني. وهذا ما تعمل المؤسسة الوليدة على إطلاقه والبدء به في عام 2022.
ولا يغيب العمل الثقافي عن نشاطات المؤسسة. فهي سوف تنظّم معارض وتدعم أعمالًا فنية، مسرحية وموسيقية ومشاريع كتابية، تستوحي أو تستلهم أفكارًا على صلة بمروحة اهتماماتها. وسوف تُطلق أيضًا في الذكرى السنوية الأولى لاغتيال لقمان سليم جائزة سنوية باسم المؤسسة لأبحاثٍ وأعمال مدارها الاغتيالات السياسية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها