الأربعاء 2022/01/26

آخر تحديث: 12:04 (بيروت)

الحريرية ومأساة البيارتة ببشامون: كأهل وأقارب في ديار الغربة

الأربعاء 2022/01/26
الحريرية ومأساة البيارتة ببشامون: كأهل وأقارب في ديار الغربة
مجرد بنايات منتصبة عموديًا على جنبات شوارع غالبًا ما تخلو من إيقاع البشر (الأرشيف)
increase حجم الخط decrease
روى المادة الأساسية من هذه السيرة العائلية- الاجتماعية والشخصية شابٌ بيروتي ثلاثيني. ومدارها المجتمع البيروتي الصامت، وقصته المأسوية مع الحريرية. وهي تتناول أيضًا أحوال فئات بيروتية تشعر أن سنوات "المجد" الحريرية التي تجلّت بالنهوض وإعادة إعمار وسط بيروت والبعثات التعليمية إلى جامعات أوروبا، كانت ضئيلة العوائد عليهم. فالفئات ما دون الوسطى والشعبية البيروتية، ترى أن النهوض والازدهار اقتلعاها من ديارها في بيروت ونفياها بصمت إلى عراء العمران "البرِّي" والموحش في عرمون وبشامون.

وبعد حلقات أربع ("المدن" 12 و 15  و 18 و 23 كانون الثاني  الحالي)، هنا خامسة عن الخواء الاجتماعي الناجم عن الإقامة في بشامون. والسيرة- الشهادة هذه مروية في صيغة المتكلم، واستُدخلت في سياقها هوامش وتعليقات قد تملأ بعض فجواتها.

أقارب في الغربة
ولدتُ سنة 1987، وفي الثالثة عشرة من عمري استقرّت إقامة أسرتي في شقةٍ اشتراها والداي سنة 2000 في بناية من البنايات الجاهزة في بشامون. وأمي وأبي من عائلتين بيروتيتين منبتًا وانتماءً، وهما الموظّفان بدخلٍ محدود عجزا عن تملُّك شقةٍ لسكننا في بيروت تسعينات الهبّة العقارية العاصفة فيها، فتنقّلنا سنواتٍ عدة من مسكن مستأجر إلى آخر في الطريق الجديدة وفي الأوزاعي مأوى المهجّرين.

واليوم -بعد عقد من إقامتي في بشامون، وعقد آخر من تردّدي المستمر إلى مسكن أهلي هناك- أقول إن ما سجّلته ذاكرتي عن طبيعة الإقامة في ما أسمّيه منفى بيارتة أهل الضعف وقلة الحيلة والتدبير والاقتدار، في بشامون، يكاد ينحصر في شعوري الممضّ بالفراغ والوحشة اللذين يلابسان الأماكن والأوقات واللاعلاقات في ذلك المنفى السكني. كأن لم تتراكمْ في وعيي وذهني حوادثُ ووقائع اجتماعية لها ملامحها وأشكالها القابلة للتساوق في رواية عن حياة ساكني بنايات زُرعت  في فضاء بريّ قبل نزولهم فيها، فلم ينشئوا ما يخرجهم من انطوائهم في خصوصية الإقامة في الشقق السكنية إلى عمومية يتكون فيها تعارف واختلاط واجتماع.

ولا أدري إن كان هذا ناجم عن موقعي ونظرتي وحياتي الشخصية، أم عن طبيعة العمران والسكن في بنايات تجارية شيدّت جاهزة، جديدة ومتزامنة أو على دفعات، في ذلك القفر الخالي من نواة عمرانية واجتماعية وسكانية سابقة ولها تراثها وتاريخها ونمط اجتماعها وتنظيمها الاجتماعي، ليندرج فيه الوافدون الجدد، فيحاورونه ويحوِّلونه حسب أهوائهم ونمط حياتهم. فالوافدون للإقامة في هذه البنايات أسر نواتية سلكت سكك القرابة السابقة على وفادتهم من ديار وبلاد أرغمتهم ظروفها وظروفهم القاهرة على مغادرتها، باحثين عن سكن آخر يناسب مداخيلهم. والبيارتة منهم غالبًا ما يشعرون أنهم اقتلعوا من ديارهم البيروتية. وحتى علاقات القرابة التي سهلت عليهم في البداية سبل انتقالهم إلى إقامتهم الجديدة، راحت تذوي ليشعروا أنهم أقارب يلتقون في ديار الغربة.  

تحديق في الخلاء
أتذكرني أقف خلف زجاج نافذة بيتنا، وأحدق في البنايات المنتصبة عموديًا على جنبات شوارع غالبًا ما تخلو من إيقاع البشر ومواقيت حياتهم اليومية. فمن الصباح إلى الغروب تظل تلك الشوارع على حالها، ونادرًا ما تعبُر عليها سوى سيارات الساكنين في رواحها وعودتها وركنها مجددًا، هنا وهناك وهنالك أمام البنايات، في مرائبها أو على جنبات شوارع بلا أرصفة، ويندر أن يعبر مشاةٌ على إسفلتها الذي أكثرتُ من التحديق فيه، مقتفيًا أثر حركةٍ أو مشهد قد يغيّران إيقاع النهارات المتشابهة.

ورغم أنني لم أختبر نمط الحياة في بيروت، وليس لديَّ سوى مشاهدَ طيفيّة غائمة من ذكريات طفولتي المشتّتة فيها، لا أدري أتراودني الحسرة أم يراودني الحنين أو الخذلان حيال الإقامة في بيروت، كلما كانت تهجم على حواسي تلك الخلاءات بين البنايات في بشامون. وأحدّق في خلاء الشارع أمام بنايتنا، وأجد حتى الآن صعوبة في التعبير عما كان يجتاحني من مشاعر فقدان ما لا أستطيع تحديده، ويلازمني فقده تاركًا في نفسي فراغًا يتشبّثُ بي كأنه هويتي الشخصية.

وأنا من لم تُدرك حروب لبنان الأهلية طفولتي، هبَّ عليَّ في معازل بشامون السكنية قلقٌ غامض وشعور بانعدام الأمان. وعصفت بي نوبات رعب في ليالي رشقات الرصاص الغزيرة في هجمة 7 أيار 2008. وفي نهار من صباحات تلك الليالي أبصرتُ من شرفة بيتنا سيارة والدي مثقبةً بالرصاص أمام البناية التي نسكنها، ولم أعد قادرًا على تحمُّل السكن في بناية تنتصبُ في ذلك الفراغ، وصرت أريد جدرانًا، غابة من الجدران، لتحميني، لكن والدي لم يكترث لما أنا فيه. فهو عاش سنوات من الحروب واختبرها، فاتّبع "سياسة إرمِ خلف ظهرك"، كحال كثرة من البيارتة، وهو مثلهم ينفر من حزب الله وسياساته.

خواءٌ وتبلّدٌ حسّيان
والإقامة والحياة في بشامون سكنٌ خالصٌ في شقق البنايات. سكنٌ عارٍ من الإيقاع والاجتماع، ولا شيء سوى السكن، فتقتصر عليه أنسنة حياة البشر في عمران برِّيٍّ يظل ابن وقته الحاضر، مهما تعاقب عليه الوقت والزمن. وتحيرني البنايات، أهي متقاربة أم متباعدة. فليس من بُعدٍ ولا قربٍ في ذاك الجمود الدائم، طالما لا يترك البشر في الشوارع أثرًا لعبورهم فيها، ولا يراكمون في الأماكن ظلالًا لحياتهم. فالعابرون سيرًا على أقدامهم على إسفلتها أشباح تمرّ سريعًا بلا أثر. فوالدي مثلًا، يركبُ سيارته كلما رغب في زيارة خالتي، أو سواها من أقاربنا في بيوتهم التي لا تبعد عن بيتنا أكثر من مسافة دقائق سيرًا على القدمين. وانعدام عبور المشاة في تلك الشوارع يضاعف الوحشة والفراغ فيها وفي البيوت. وفي عتمة الليل تشعر أنك في خلاءٍ شبه صحراوي، يعوي فيه كلبٌ عواءً يتردّد صداه متباعدًا متبددًا في الأرجاء. وقد تعبر دراجة نارية في صمت الليل وسكونه كمبضع سكين تتردّد أصداء أنينها مديدًا، ثم تنطفئ.

والفراغ الذي في الخارج يتسلّل إلى داخل البيوت، إلى علاقات ساكني البيوت الباردة. فراغٌ بارد، ولا حرارة أو حيوية إنسانية في العلاقات. برد كعلاقات الأقارب في ديار الغربة. فإذا اجتمعوا في سهرة أو على عشاء يعتبرون أنهم حققوا إنجازًا كبيرًا. وسوى ذلك لا تلقائية ولا مصادفات، بل برودٌ يفرضه المكان، ويظل مكتومًا أو منطويًا في النفوس. وأنا لا أجيد التعبير عن ذلك البرود بالكلمات، وحاولتُ مرات أن أرسمه، بما أنني درستُ الهندسة المعمارية في الجامعة. وقد أشبّهه بالشاي الفاتر أو الماصل.

هكذا هي الحياة خارج المدينة، باهتةً في منافي بشامون. حياةٌ بلا أثر، بلا مصادفات، بلا حوادث، بلا ذكريات. ولا شيء يكسر ذاك الفتور، سوى التلفزيون والهاتف الخليوي واللابتوب. لكن مثل هذا التواصل يفتقد إلى شعلة حسّية تحييه وتترك أثرًا في ذاك التبلّد الحسّي المقيم.

وكنت أتردد إلى بيروت لأكسر ذلك الفتور الحسّي، لأشعر بالحرارة والتوتر العصبي، لأكسر تلك الفراغات التي تريني كل شيء بعيدًا ونائيًا في بشامون، حيث إذا خرجتَ إلى الشارع ليلًا يصفعك ذلك الفراغ الذي يصفر فيه هواء بارد في العتمة، فتعود سريعًا إلى البيت وتنطوي على نفسك. والهواء في الخارج هو صوت الفراغ. الشخص الغريب أو الذي تعرفه يظل غريبًا نائيًا إذا صادفته في الشارع. لا تراكم للزمن الإنساني في الأماكن. البنايات متشابهة، وتبعث المللَ في الحواس والجمودَ في الذهن. حياةٌ بلا إيقاع في نهارات، تارة تحسبها طويلة مضجرة، وطورًا قصيرة تُفاجأ كيف انقضت سريعًا. وأحيانًا كنت أنتظر أوقات خروج التلامذة من مدرسة قريبة لأشعر أن للحياة إيقاعًا وصوتًا وزمنًا في المكان. وفي غروب النهارات الرمضانية تترك أصوات الملاعق في الصحون شيئًا من الإلفة العابرة.

مقدّمات 7 أيار 2008
وسكان بنايات بشامون خليطٌ من شيعة وسُنّة، وقلّة من الدروز، ويندر بينهم المسيحيون. والأسرة المسيحية التي سكنت في البناية التي نقيم فيها، لم تطِق العيش في بشامون، فانتقلت واختفت سريعًا. ومنذ اغتيال رفيق الحربيري، وبداية تخييم قوى 8 آذار في وسط بيروت في العام 2007، نشأت الحساسيات بين سكان البنايات بحسب طوائفهم. قبل ذلك كان بعض الشبّان السنّة والشّيعة يقفون معًا، فيتعارفون ويتحادثون أمام مداخل هذه البناية أو تلك. لكن نفورًا نشأ بينهم بعد اغتيال الحريري، فعزفوا حتى عن تبادل التحيّات إذا التقوا مصادفة. وإذا كنتَ تشتري شيئًا من دكانٍ صاحبُها من طائفة معيّنة، صرتَ تفكّر أن صاحب دكانٍ أخرى من طائفة أخرى سوف يغضب منك أو ينقم عليك. وصار الخلاف على ركن سيارة يؤدي إلى شجار وإطلاق رشقات نارية في الهواء، إذا كان المتشاجران من طائفتين مختلفتين. وتكاثرت مثل هذه الحوادث، رغم أن الخلاءات في شوارع بشامون لا تستدعي التزاحم على ركن السيارات، مهما تكاثرت.

وأنا أرى أن تيار المستقبل وقع في خطأ أو مغالطة، عندما ظنّ أن ما حدث في 14 آذار 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري، منحه قوة تمكّنه من الوقوف في وجه القوّة الشيعية. لذا أخذ شبّان من المستقبل يكثرون من حضورهم في شوارع بشامون.. وبدأ يظهر السلاح إلى أن وقعت الواقعة في 7 أيار 2008.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها