الخميس 2021/09/23

آخر تحديث: 13:48 (بيروت)

معازل لبنان البشرية البكماء في خنادق العتمة

الخميس 2021/09/23
معازل لبنان البشرية البكماء في خنادق العتمة
نحدق في تلك الكتل البعيدة أمامنا، ونفكر في مصير سكانها (Getty)
increase حجم الخط decrease
هناك في البعيد، خلف ركام المرفأ القريب وبقايا هيكل عنابره الخرسانية الشاهقة، تتضاءل الأضواء وتتباعد أمسية بعد أمسية في كتل الأبنية الإسمنتية المشيدة فوضوياً وعلى عجلٍ، في هبَّات عمران الحروب وتهجير المسيحيين إلى ديار الصفاء الطائفي الحربي، على منحدرات صنين في المتن الشمالي وكسروان. ونحن شخصا الغروب والمساء، نحدق في تلك الكتل البعيدة أمامنا، ونفكر في مصير سكانها.

منذ أكثر من 30 سنة نمشي في الغروب والأمسيات مشياً سريعاً على كورنيش المنارة البحري، وانتقلنا بعد أيام من انفجار المرفأ إلى المشي هنا على هذين الرصيفين الإسمنتين الفسيحين، فوق ما كان مكب النورماندي للنفايات والردم في أزمنة الحروب وبعدها، واستُصلِحَ طوال سنوات ليكون حديقة بحرية ومنتجعات سياحية وسكنية فخمة. وفي السنتين الماضيتين صرنا نفكر ونشعر ونتخيّل حسيِّاً أن لبنان يُمعن يوماً بعد يوم في تحوّله معازل بشرية متباعدة، مجهولة، بكماء صامتة، ويتحرك سكانها في النهارات -ونحن منهم- خاملين مبنّجين أو شبه منوّمين. وفي الليل يتشرنقون في خنادق العتمة.

كأن ما حدث في هاتين السنتين أقوى على البتر وإحداث القطيعة والتشرنق والعزلات البكماء الصامتة، من سنوات الحروب الطويلة الصاخبة. وفي مشينا على رصيفي حديقة الردم، صرنا إذا لمحنا طفلاً يلهو مسروراً، أو في عربة أطفال تدفعها أمامها أمرأةٌ أو يدفعها رجل، نشفق على الطفل، فيقول أحدنا للآخر: أي مستقبل ينتظره في هذه البلاد-الهوة التي أنجبه فيها أهله

وحتى ذاك العصفور الذي لمحناه في غروب يرفرف بجناحيه متسلِّقاً سياجاً تحت شجرة ضخمة معمرة، قرب كنيسةٍ صغيرة مهجورة أمام بنايات الزجاج والمعدن الجديدة الشاهقة الشاحبة، فكرنا أنه عصفور مريض، وتخلّف عن هجرة ما قال أحدنا أنها حساسين برازيلية قد يكون أتى بسرب منها صاحب مشروع حديقة الردم، فأُطلقت هنا، فعشّشت وتوالدت في الشجرة المعمرة. وتخلينا أن تلك الحساسين الغريبة أصيبت بإرتجاج دماغي جراء انفجار المرفأ، فصارت أصواتها منكرة. وزامن انقلابُ أصواتها انتشار سلْحِها على الممر المبلّط تحت الشجرة، فصار لون البلاطات كامداً وكستها طبقة رطبة دبقةٍ، كأنها صدى زقزقاتها الجديدة المنكرة.

وكلما اقتربنا من مرفأ الركام، نفكر أن أبنية الإسمنت العارية المرصوصة فوضوياً على منحدرات المتن الشمالي وكسروان، صارت شبه خالية، فيما هي تغرق في العتمة الموحشة التي تباعد بين البشر وتجعلهم أشباحاً من ماضِ يشرف على القطيعة والاندثار.

ونمشي. خلفنا جدار من الفنادق المعتمة، فأتخيل في واحدٍ منها شخصاً يضرب على آلةٍ كاتبة قديمة في بقعةٍ من نور شموع يؤلف كتاباً عن لبنان الجبل في زمن المتصرفية، فيصاب فجأة بهستيريا وحشية، كمثل جاك نيكلسون في فيلم "شاينينغ" (بريق أو إشعاع بالعربية). وأتذكر أنني شاهدت هذا الفيلم على شاشة صالة من سينمات شارع الحمراء مطلع الثمانينات، والتي تكاد أسماؤها تمحي من ذاكرتي.

ألتفتُ إلى البحر، فإذا سفن صدئة كمثل سفينة نيترات الأمنيوم، تنتظر الرسو في خليج مار جريس لتفرغ حمولاتها من نفطٍ وبالات ثيابٍ شتوية، قد تكون شبيهة بمعاطف معسكرات أرخبيل الغولاغ السوفياتية. والتفتُ إلى البر القريب، فألمح إلى جانبي آخر مستشفى جاهز، شاهدت طوال شهرين تركيبه على مسافة أمتار من مبنى البيال، وظل على حاله خالياً مهجوراً ويتراكم عليه الغبار، وخلفه أكثر من خمسة مولدات كهربائية أخذت تصدأ جديدة، قبل تشغيلها. وحده مبنى البيال للأعراس الرعاعية الباذخة أعيد ترميمه وصار جاهزاً لاستقبال الحفلات في هذا الخراب المقفر. أما مبنى معارض الكتب السنوي فلا يزال على حاله جداراً أمامياً خلفه الركام.

لا أدري لماذا تذكرتُ البيت الذي استأجرته للمرة الأولى في بيروت، في خريف 1982، بعد صيفها الإسرائيلي العاصف المدمر. دخلت إلى ذاك البيت على ضوء شمعةٍ، فاصطدمت قدماي العمياوان بكتب مبعثرة في صالونها تركها من علمت لاحقاً أنه مصري على المذهب الماوي، وهُجِّرَ من بيروت بحراً إلى اليونان ربما، ومات في القاهرة بعد سنين.

وقبل شهر تقريباً غادرت ذاك البيت إياه على ضوء شمعةٍ بعد شجار ليلي مع صاحب المولد الكهربائي. وأعود مرة أو اثنتين في الأسبوع إلى بيتي ذاك، فإذا به على حاله كما غادرته. لكنني غالباً ما أشعر أنني أتنقَّل بين غرفه مسرعاً متوتراً، كأنني شخص غريب يتسلل إلى منزل طفولته أو شبابه المنقطع منذ سنين كثيرة. ومرة رن الهاتف فجأة، فلم أجرؤ على رفع سماعته. كأنما رنين الهاتف طالع من ليلة قصفٍ مدفعي في ظلام منتصف الثمانينات.

ونمشي عائدين على رصيف حديقة الردم البحرية. كلاب كثيرة يجرها أصحابها على الرصيف. فأتذكر كلبة صديق اقتناها بعد مدة قصيرة على انفجار المرفأ، وحدثني مرة عن رغبته في استئجار منزل في المتن، وسألني إن كانت لدي رغبة في مشاركته ذلك البيت الجبلي. وفي مرة أخرى حدثني عن رغبته في الهجرة إلى أوروبا. وبعد أيام، لما استعدت جواز سفري من السفارة الفرنسية وعليه تأشيرة "شنغن" لمدة أشهر ستة، ارتفعتُ خفيفاً سنتمترات عن الأرض، كأنني أطير للحظات، وهويت بعدها فجأة في الهوة، قرب قبضة 17 تشرين الصدئة في ساحة الشهداء. كانت الساحة خالية سوى من شبان وفتياتٍ ينتظرون مواعيد استعادتهم جوازات سفرهم من مبنى سينما أوبرا الذي هجره أخيراً متجر فيرجين البيروتي، وتحول حصناً لتأشيرات سفارات أوروبية كثيرة.

ونمشي على رصيف حديقة الردم البحرية في مساءٍ من أواسط أيلول. لبنان تزداد معازله البشرية تباعداً. صفٌ من بنايات الحديد والزجاج، تشعشع الأضواء في طبقات ثلاثٍ في واحدةٍ منها. وعلى الأرصفة حولها نُصبت أسلاك شائكة يلمع معدنها في العتمة لحراسة رئيس الحكومة الجديدة.

للمرة الألف الحياة هنا صخرة في الرأس أفعى في الظلام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها