الجمعة 2021/09/17

آخر تحديث: 11:41 (بيروت)

بيروت مدينة عمياء.. مقاهيها مكاتب نهارية للعمل والدراسة

الجمعة 2021/09/17
بيروت مدينة عمياء.. مقاهيها مكاتب نهارية للعمل والدراسة
كما الحمراء وبدارو، تحولت مقاهي مار مخايل إلى مكاتب عمل (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
ألزمت جائحة كورونا موظفي الشركات بالعمل من المنازل. ثم تلا الجائحة الانهيارُ الاقتصادي والمالي وإقفال شركات ومؤسسات كثيرة أبوابَها وتسريح كثرة من موظفيها، وانعدمت فرص الأعمال في سوق العمل. ولم تلبث أزمة الوقود والكهرباء أن أطلقت موجة هجرة خارجية عارمة، تفشت واسعة في أوساط الطلاب والفئات العمرية الشابة من الفئات المتوسطة والكفوءة. ولا تزال هذه الموجة في بداياتها، يأساً من الأوضاع في لبنان. وتستقطب قبرص وتركيا مهاجرين موقتين أو هاربين من حياة البؤس اللبنانية الراهنة، على أمل أن تتغير الأحوال في بلاد هوت إلى قعر العالم أو خرجت منه إلى هامشه المعتم.

والشركات والمؤسسات التي لا زالت تعمل وقادرة على تأمين الكهرباء لمكاتبها، لم يعد يسع موظفيها الوصول إليها بسبب ندرة البنزين، وجنون أسعاره في السوق السوداء، واضطرار الناس للوقوف ساعات عدة في الطوابير الطويلة للحصول على صفيحة وقود لا تكفي يومين. وتوقفت في فصل الصيف الحار أجهزة تكييف الهواء، إضافة إلى خدمات الإنترنت. فبات العمل من البيوت مستحيلاً. لذا صرت تسمع بعض بقايا الموظفين يقول: أصبح لدينا مكتب ثابت في مقهى ليناس باريس-فرع بدارو، أو في مقهى إيربنيستا-الجميزة..

باص زمن المدارس للموظفين
يبدأون ويبدأن بالوصول تباعاً إلى هذين المقهيين منذ الساعة التاسعة صباحاً. الطاولة في زاوية ليناس تكاد تكون محجوزة لنا دائماً. موظفو المقهى يعرفونهم ويعرفنهن جيداً. يعلمون أنهم/ن يبدأون بدوبل إسبريسو وعبوة مياه، ثم يشرعون بالعمل على لابتوباتهم. لاحقاً يتناولون الفطور، يتبعه تحلية وقهوة ظهراً. وفي السادسة بعد الظهر يغادرون.

لمياء لم يعد يسعها المداومة على هذا الروتين. الشركة التي تعمل فيها وبعض سواها، عثرت على طريقة مبتكرة لإحضار موظفيها إلى مكاتبها. فهي تحتاج لعملهم الحضوري. اشترت باصاً لنقلهم من مناطق سكنهم المختلفة في بيروت إلى مكاتب الشركات، وعند انتهاء الدوام يعيدهم إلى منازلهم، فيشعرون أنهم عادوا بالزمن إلى الوراء، إلى زمن الطفولة وأوتوكارات المدارس، ولم يعد ينقصهم سوى الزي الموحد.

وجوه أليفة صامتة
الوجوه التي لا تزال حاضرة في ليناس وإيربنيستا أصبحت مألوفة تماماً. موظفون وموظفات وأصحاب أعمال حرة، هربوا وهربن من انقطاع الكهرباء، من الحر الشديد في المنازل وتقطّع الإنترنت، واتخذوا من المقهى الصغير مكتباً لهم.

الفتاة التي تجلس قرب النافذة وتضع أمامها كوب قهوة أميركية وعبوة مياه تعمل في برنامج الأمم المتحدة للتنمية. تجري الآن محادثة عبر برنامج zoom مع مديرها في العمل ربما. بعد قليل تطلب الفطور. والرجل الخمسيني على الطاولة المجاورة اعتدنا رؤيته هنا، لكنه اليوم استضاف شخصين إضافيين. اجتماع عمل موضوعه برامج تعنى باللاجئين السوريين.

وهناك فتاة وحيدة تعمل خلف الكمبيوتر. تبدو منهمكة. تنظر إليّ حين أمر قربها. وتلقي التحية ثم تتابع عملها، على الرغم من أنني لا أعرفها. لا أحد في المقهى يعرف الآخر معرفة حقيقية، لكننا أصبحنا زملاء عمل. تعودنا على حضورنا، كما لو كنا في مكتب إحدى الشركات، وأحياناً نتبادل المساعدة.

هدوء تام. لا أحاديث بصوت عال، ولا قهقهات كنا تعودنا سماعها سابقاً في المقاهي. صوت عزف أصابع لا تكل على لوحة مفاتيح الكمبيوتر. همسات اجتماعات عمل. أجهزة كمبيوتر مفتوحة على كل طاولة وفناجين قهوة. إذا أتيت وافتقدت أحد زملائي في مقهى العمل، أسأل عنه النادل، كأنه موظف الاستعلامات في شركة: أين فلان؟ يجيبني: ذهب منذ ساعة، يعود بعد قليل.

مقاهي عمل ما قبل الهجرة
وفي اجتماعاتنا المسائية تطغى أحاديث العمل على أحاديث المقاهي المعتادة. نسأل ندى عن العمل في شارع الحمراء وأي مكان هو الأنسب. تجيبنا أن الكهرباء في ستاربكس تنقطع باستمرار. من يعملون فيه يبحثون عن ساعة عمل أو ساعتين أثناء انقطاع الكهرباء في منازلهم.

أما في روسا فالمكيف قوي جداً، لا تستطيع احتماله، والمقهى مكتظ بالناس. لذلك اختارت مقهى بي. هايف B. Hive القريب من من الجامعة الأميركية، حيث اتخذه طلاب مكاناً للدراسة. تقول إن العاملين في المقهى أصبحوا معتادين عليها. وهناك طاولة محجوزة دائماً لها. مثلنا تماماً في مقهى ليناس.

وكما الحمراء وبدارو، تحولت مقاهي مار مخايل إلى مكاتب عمل للهاربين من جحيم انقطاع الكهرباء. Klei، urbanista، Caffeine ،roaster، Sip وغيرها، مقاه قد لا يكون أصحابها سعداء بزبون يحجز الطاولة طوال ساعات النهار كي يطلب فنجان قهوة وعبوة مياه صغيرة. لكن هؤلاء الموظفين، أصبحوا المورد الأساسي للمقاهي.

قرب مقهى ليناس يوجد مقهى New York Cup، فقررنا اليوم تجربته. لديه فناء خلفي، ساحة خارجية صغيرة فيها مقابس كهربائية، إنترنت جيد، زملاء عمل توزعوا حول الطاولات. مكان مثالي لنحجز لنا مكتباً صغيراً دائماً، على الأقل خلال مناوبة بعد الظهر حين  تنحسر أشعة الشمس وتنخفض الحرارة.

المدينة العمياء
لكن إلى متى يستمر هذا الرحيل الموقت من المكاتب للعمل في المقاهي؟ وإلى متى تتحمل الشركات والمؤسسات هذه الانقطاعات والعمل أولاين في ظروف مزرية؟ وإلى متى يتحمل زملاء العمل في هذه المقاهي حياتهم، في بلاد تحولت إلى سجن كبير؟

جواباً على هذه الأسئلة صرنا نسمع كثيرين وكثيرات يقولون: هيا بنا إلى قبرص، اليونان، اسطنبول.. هناك مدن وحياة طبيعية آمنة، وليل لا نتحول في عتمته إلى أشباح تائهة أو ضالة في هذه المدينة. ماذا نفعل هنا في سجن هذه المدينة العمياء الكبير؟! 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها