السبت 2021/08/14

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

هذيانات فجرٍ.. من يوميات خراب بيروت

السبت 2021/08/14
هذيانات فجرٍ.. من يوميات خراب بيروت
ودخلتُ في متاهة الوقت: أفي صباحٍ أنا أم في مساء؟! (Getty)
increase حجم الخط decrease
تستيقظ مذعورًا من عتمةِ نومٍ وعتمة عميان، فلا تدري في أي مكان ووقت أنتَ، وإن كنت حقًا أنتَ من استيقظ أم شخص آخر كان يشبهك، فوهتْ صلتك به وتلاشت في حمّى الفوضى والضياع. وكلمة "تستيقظ" في بيروت فقدت معناها ودلاتها في زمن القسوة الزاحفة على هذه المدينة.

ففي يقظتك تدركُ إدراكًا شبحيًا مخدَّرًا أنك في بيتك الذي تعرفه وكان أليفًا، وصار يشبه جُحْرًا حجريًا خانقًا، وفقدت كل دليلٍ غير شبحيّ على عيشك المزمن فيه منذ ثلاثين سنة، وربما أربعين، وانقضت بلمح بصر النمل أو السلاحف. فلم تعد تعلم من أنتَ، وربما صرتَ تشبه قرينًا لك لا تدري متى انفصل عنك أو انفصم، وصرتما تتنقلان في هوسٍ محموم في هذا البيت - الجحر، وتعودان إليه مدمرين بعد خروجكما منه إلى شوارع مدينة السخام والقيظ والوجوه الحجرية، كأنكما شبحان يتمتمان كلمات قديمة فقدت زمنها ولم تعد تُسمع، وإن سُمعت تكون غير قابلة للفهم.
****

إذًا، أنت في بيتٍ كان بيتك في يومٍ ما. وها أنت في الثالثة ما بعد منتصف ليل، على ما تشير أرقام ترتسمُ على شاشة هاتفك المحمول، التي ترسل ذاك الضوء الفوسفوري، ثم تنطفئ، فيغمرك الظلام. ظلام دبِقٌ في الجلد، دبقٌ في الروح. ولا تزال في جسمك بقايا قوة عمياء لتنتقل إلى دورة المياه. وعلى ضوء شمعةٍ ينهمر عليك رشاش الماء. ماء ينابيع مسمومة من بقايا ثلج صنين أو جبل الكنيسة في خزانات جوفية معتمة، تتخيلها في أنابيب بيوت النمل في بيروت المعتمة.

تعلم أنَكَ تستحمُ وتهذي هذيانًا بصريًا تترد فيه أشباح كلمات خرساء في دورة المياه على ضوء شمعة. لكنك لا تدري ماذا تفعل بعد الاستحمام، وكيف وإلى أين تخرج من البيت. تتذكر الهواءَ البارد في سيارتك المركونة في موقفها، المزودة بليترات بنزين أمضيت ساعاتٍ في طابور على حافة القتل لتعبئتها في خزانها. وأبصرت في الطابور امرأة تغفو خلف مقود سيارتها في شمس ظهيرة القيظ والشجارات على حافة قتل علمت أنه أودى برجال ثلاثة قبل أيام في طرابلس.
****

في موقف سيارتك ما بعد الساعة الثالثة فجرًا -وسميته فجر المنتحرين أو الراغبين في الانتحار- يقفُ فجأة إلى جانبك حارس الموقف، فيما تشغِّلُ محرك السيارة. "صباح الليل"، يقول لك الحارسُ الذي يعرفُك وتعرفه. لا تدري أيسخر منك أم من انقلاب الزمن الزاحف على بيروت. وأخبرك مرة أنكما كنتما جيرانًا في فتوتكما قبل نحو خمسين سنة في الشياح بدايات الحرب. فوعدته بهدية: كيلوغرام من لبنة ماعز جبل الشيخ على حدود مزارع شبعا الخاوية الخالدة. وتعطيه الهدية الموعودة في الثالثة من فجر المنتحرين.

وتقود سيارتك إلى خارج موقفها، ثم تروح السيارة تقودك في شوارع ما تتذكر أنه كان مدينة. لكنك لا تعي كيف انقضى الوقت بين الثالثة وبزوغ ضوء الفجر الكربوني الماصل المغبرِّ كوجهك في مدينة النفايات والسخام على الأرصفة وفي شوارع الإسفلت الدبق. وتبصر مستوعبات نفايات تفحَّم معدنها وتتصاعد منها أدخنة من عسيس نيران خامدة في المعدن الأسود. ومن راديو السيارة ينبعث صوت وديع الصافي: "ربيع الشوق من عنا مَمَرو/فراح الدهر من عنا ما مروا/ممرو فراقكم ما مرو/ (ولا أدري لماذا سمعت نهاية بيت العتابا هذا على غير ما هي عليه: تراب الأرز أغلى من الذهب).
****

في ساحة الشيخ المفتي حسن خالد في الطريق الجديدة، الذي قُتل بعد احتفال جماهيري حاشد في عيد أضحى مبارك أو فطر سعيد في أواخر ثمانينات القرن الماضي، أوقفتُ سيارتي في نحو السادسة صباحًا. رأيتُ كومة من الناس أمام محل حلويات. الكنافة بالجبن الصباحية قوتٌ صباحي لناس غادروا أسرتهم في بيوتهم، هائمين بعد وقت قليل من فجر المنتحرين. أخرجُ من السيارة، أقف مبتعدًا أمتارًا من المتحلقين حول "سدر" الكنافة بجبن. وجوهٌ حجريةٌ لبشر بثياب النوم، شعر كلٍّ منهم منفوشٌ، أفواهُهُم مفتوحة، أحناكهم مرتخية، كأطرافهم شبه المتصدعة. هم على خلاف مضيفة الطيران التي لمحتها على مدخل البناية، تنتظر باص الشركة ليأخذها إلى المطار، فهبت على أنفي موجة عطر قديم لمّا مررتُ قربها. كانت تُمسكُ بيدها المقبض المعدني لحقيبة المضيفات الصغيرة. شعرها مصفف، واقفة كتمثال، كعارضة أزياء مضيفة طيران.. وفجأة تخيّلتُ مسافرًا في رحلتها يصفعها في الطائرة المحلِّقة المتجهة إلى باريس. لكني لم أكن أحتاج إلى مخيلتي المسمومة لينقلب مشهدها فجأة. فما أن وصل باص شركة الطيران ليقلّها من مدخل البناية إلى المطار، حتى لمحتُها تتعثّر بحقيبتها وتقع أرضًا على رصيف السخام.

وسمعتُ صوت امرأة تصرخ متذمرة أمام محل الحلويات: الكنافة بجبن محمضة، محمضة. تبيعون الكنافة محمضة! والمرأة المشعثة الشعر رمتْ من يدها قرب "سدر" الكنافة كيسًا، فتناوله البائع العامل السوداني اللهجة وراح يشمَّه. وصرخ لعامل آخر في داخل المحل: ألم أقلْ لك إن "سدر" الكنافة هذا محمّضٌ. وفي غضب حمل أحد العاملين "السدر"، فوقع على الأرض داخل المحل واندلقت الكنافة على الأرض.
****

على كورنيش بيروت البحري أقودُ سيارتي في السادسة والنصف صباحًا. كأني جائع. وأخذني هوس غامض أو وِحامٌ إلى الكنافة بالجبن. قرب عامود المنارة مسمكةٌ-مطعمٌ جُهِّز على عجلٍ وبالتدريج في يوميات بيروت الماضية. على الرصيف يقلي صاحب المطعم السمكَ في السادسة والنصف صباحًا. المرأة الشاردة التي لمحتها في غروب نهارات سابقة، تقف أمام المطعم. قطط تهجم على عظام سمك على الرصيف. وقبل ساعة كنتُ قد أبصرتُ قططًا تهجم على عظام دجاج قرب محل الحلويات.

ودخلتُ في متاهة الوقت: أفي صباحٍ أنا أم في مساء؟!

"وقت ليسيل زيتُ عينيه"، كتب مرة عباس بيضون في إحدى قصائده. وها أنا أصحح له: وقتٌ ليسيل زيتُ عيوننا، ليسيل الزيتُ من عيوننا.
****

وأوقفتُ سيارتي أمام محل حلويات على شاطئ الروشة في السابعة تقريبًا. لمحت خلف سياج الرصيف العالي رجالًا ونساءً وفتيانًا قليلين يشهرون هواتفهم ويتصورون صورًا سياحية في الفجر. سياح الفقر على رصيف صخرة الروشة التي صار مشهدها الكئيب لسياحة الفقراء منذ زمن بعيد.

وتخيلتُ مشهد رالف رزق الله يهوي من مكان ما على الرصيف نحو الأزرق البحري في تسعينات القرن الماضي. بعينيه رأيت من الأسفل مشهدًا مقلوبًا للمدينة: سماءٌ مزروعة بنفايات أو بنايات الإسمنت والألمنيوم والزجاج. تخيلت رجلًا يختنق ليلًا في مصعد بناية شاهقة. رأيت سيارة اسعاف تعبر في صمت قرب من يتصورون بكاميرات هواتفهم. تابعتْ سيارتي مسيرها على كورنيش الروشة. مقهى دبيبو كأنما مقفلٌ وخربٌ من دهر. مطعم مسيس خربةٌ خلف زجاج يكسوه السخام. البناية الزائلة التي تركتْ فراغًا قرب بناية مسيس غيرت معالم المكان كله، فشعرتُ أنني في بلدٍ آخر مجهول، أو كأنني في منام. واختلط في ذهني ترتيب الوقت والأمكنة.

متى رأيتُ مشهد الجالسين أمام محل الحلويات قبالة صخرة الروشة تقريبًا؟ كانوا كما في أمسية ويسهرون، فيما أنا أنظر إليهم من الفجر، فجر هروبي من منزلي الذي تيبَّست فيه ذكريات حياتي السابقة. ورأيت أمامهم صحوناً فيها بقايا طعام وأرغفة خبزٍ مرقوق. وفي أفواههم أبازيم معدنية موصولة بأنابيب نراجيل، فاستنتجتُ أن المحل ليس للحلويات وأن الوقت ليس فجرًا. وحاولتُ التأكد من استنتاجي، فتقدمت من باب المحل الزجاجي، دفعته وفي ظني أنني أدخلُ إلى محل الحلويات المعهود. لكنني رأيتُ أنني في مقهى عتيق كأنما خَرِبَ قبل ساعة أوساعتين. غير أن مشهد الجالسات على رصيفه بشفاههن المنفوخة بالسيليكون نقلتني إلى زمن آخر: سهرات في شارع السياحة في وسط بيروت تسعينات القرن الماضي، بين ساحة النجمة ومبنى التياترو الكبير.
****

وتابعت ملحمة هذياني وضياعي في فجر بيروت. مرتان ذهابًا وإيابًا في السيارة بين عامود المنارة وبرج الفندق الجديد المهجور المضاء منذ سنين. أحدّق في الرصيف البحري. أتذكر صبيحتيّ المشي الرائع في بدايات الإغلاق العام السعيد خوفًا من كورونا: هجوم العصافير الربيعي على الرصيف. نزهات النوارس في اقترابها من أسوار الجامعة الأميركية.

أمس مررت في العاشرة صباحًا في شارع بلس قرب سور الجامعة. غطيط نوم صيفي متأخر يمشِّح البنايات والمقاهي. اصفرار ضوء الشمس فوسفوري في عينيّ. المحال المفتوحة تبدو مداخلها كبقر سائبة في جدران كالحة. ألمح جرذًا مسرعًا على إسفلت الشارع، فيمعسه دولاب سيارة رانج روفر سوداء فاحمة كلها، ويظهر على الأسفلت جلد تنبض فيه لزوجة أحشاء أتخيلها ساخنة. وفي شارع متفرع من نهاية شارع الحمراء ركنتُ سيارتي حذو رصيف مكتبة. فشعرت أن دواليب السيارة تهرس أكياس نفايات أبصرتها مرمية في الشارع إلى جانب رصيف المكتبة المقفلة. لا شيء في الحمراء يذكر بشيء. مشيت خطىً كسيحة على بلاطات أرصفة مبقورة. وصلت إلى موعدي في مقهى أعرفه، بعدما مررت أمامه مرات تائهًا من دون أن ألمحه. لم يستمر لقائي بمن واعدته أكثر من دقائق عشر عسيرة. دلقت فنجانين من القهوة على طاولة المقهى. ولما غادرت أضعت المكان الذي ركنت فيه سيارتي. مررت قربها مرتين من دون أن أشاهدها. أخيرًا دخلت إليها وشغّلت مكيّفها، وبعد دقائق قليلة شعرت أن قميصي مبلل بعرق شديد البرودة. "مالح يا عصير الجسد، مزفرٌ وذو رائحة" (محمد العبدالله، غداة حرب السنتين). 
****

أعود إلى موقف سيارتي قرب بيتي. أبصرُ اللمبة مضاءة في أعلى عامود الإنارة على الرصيف. هو دليلي اليومي منذ -لا أدري كم من الوقت- على استعمالي المصعد في الصعود إلى بيتي في الطبقة السادسة من ذاك المبنى الذي كلما أبصرته في خطواتي إليه، أتساءل: لماذا لا أزال أسكن هنا؟ فلا ألقى جوابًا.

أحدّق في واجهات تلك البناية الكالحة، وأسرع الخطى إلى جحري الحجري الأليف. أشغّل المكيّف، بل المكيفات الثلاثة في البيت. أخلع ثيابي. استحم على ضوء المصباح. أخرج إلى الصالون. الهواء بارد. الساعة تسير إلى التاسعة والنصف صباحًا. أجلس على الكنبة. أغفو في سعادة لم أشعر بها من سنين. لم تستغرق غفوتي أكثر من دقائق. أستيقظ نشيطًا.. وأخرج إلى الحرب النهارية في شوارع بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها