السبت 2021/02/27

آخر تحديث: 13:59 (بيروت)

لبنان الزغرتاوي: سياسات الحرب (1)

السبت 2021/02/27
لبنان الزغرتاوي: سياسات الحرب (1)
زغرتا عام 1958 (Getty)
increase حجم الخط decrease
في مطلع روايته سيرة "حركة الشباب الزغرتاوي: من النضال المطلبي إلى النضال السياسي" في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، يروي ميشال الدويهي (العدد 28-29 من مجلة "بدايات")، أن زغرتا خلت في مطلع الستينات من أي نشاط حزبي، بعدما كانت نشأت فيها أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات أحزاب متباينة: "التحرير اللبناني" (1949-1953)، "الحزب الديمقراطي" (1950-1951)، "السوري القومي" (ظلّ فاعلاً حتى العام 1961)، و"الكتائب اللبنانية" الذي لم يكن حضوره السياسي ظاهراً أو فاعلاً.

حرب أهلية زغرتاوية
ويروي الدويهي أن تلك الأحزاب الضعيفة والعابرة أصلاً وفصلاً، تشتتت وانهارت في خضم حرب أهلية عشائرية نشبت متقطعة في زغرتا طوال الخمسينات تقريباً. وفي رواية أخرى رواها والد ميشال، شوقي الدويهي - نُشرت في كتاب "وداع لبنان" (2019) لكاتب هذه السطور - أن تلك الحرب توّجت تحولاً بطيئاً أصاب تركيب الزعامات المحلية وتوزعها وأحلافها في الريف الشمالي الماروني الجبلي. وتعود بدايات ذلك التحول إلى استحداث سلطة الانتداب الفرنسي المجلس النيابي التمثيلي لـ"الشعب اللبناني" سنة 1922. والأحرى القول المجلس النيابي التمثيلي للجماعات والمناطق في دولة لبنان الكبير.

ونجم التحول ذاك عن انضواء العصبيات الأهلية العشائرية والعائلية، زعمائها ووجهائها، في التنافس على التمثيل النيابي الجديد. وبعد انتخابات 1951 النيابية اشتدت الصراعات والنزاعات، فاتخذت طابعاً دموياً وثأرياً بين حلفين عائليين عشائريين زغرتاويين كبيرين: آل فرنجية ومعوض من جهة، وآل الدويهي وكرم من جهة أخرى. وكان كل من هذين الحلفين يضم لفيفاً من العائلات الزغرتاوية الصغرى. وتوّجت دورةَ العنف المتقطعة بين الحلفين، ما سميّت حادثةُ أو "مجرزة مزيارة" التي وقعت في كنيسة قرية مزيارة في قضاء زغرتا، واستوحى جبور الدويهي منها روايته "مطر حزيران".

فأثناء تشييع قتيل كان قد سقط في واحدة من دورات الثأر المتبادل بين عائلات الحلفين المتنازعين، سقط في تلك المجزرة 10 قتلى من آل الدويهي و4 من آل فرنجية ومعوض. وأدى ذلك الحدث إلى توتر واستنفار كبيرين في زغرتا. فنشأت بين أحيائها أو حاراتها العائلية الطابع - لكن المشوبة باختلاط عائلي متفاوت - حدود جغرافية، عائلية وعشائرية، شبه حربية. وأقيمت على تلك الحدود متاريس وحراسات مسلحة، وحصلت عمليات هجرة وتهجير متبادلة بين الحارات المنفصلة، والمتحاجزة على جبهات شبه قتالية. وأنغلقت الحارات على الحياة الداخلية لسكانها، وعُلّقت الحياة والخدمات العمومية في البلدة الكبيرة، ونشأت في كل شطرٍ منها ساحة خاصة به. وفي الأثناء تكاثفت حركة مغادرةِ أسرٍ وشطور من عائلات زغرتا إلى مدينة طرابلس القريبة، والإقامة فيها أقامة موقتة، طويلة أو دائمة. لذا خفتت دورة الحياة العامة في زغرتا، ضمرت وخبت واقتصرت على ضروريات، غالباً ما يشوبها الخوف والتوتر والاستنفار. وقد تكون العبارة التي كان يرددها الزغرتاويون في تشييع موتاهم وقتلاههم: "لا تشمتو ياعدا/الموت ما خلا حدا" وليدة طبيعة الحياة الحربية هذه.

لكن الانقسام والاستنفار لم يستمرا على حالهما طوال مدة النزاع وتبادل الثارات المتقطعة حتى توقفها في العام 1964. بل عاشت زغرتا هدنات متفاوتة زمناً، كانت تعود بعدها المتاريس والحراسات المسلحة إلى الحارات، عقب حادثة ثأر بين عائلاتها. وجاء توقف دورات العنف والثأر متزامناً مع التحضير للانتخابات النيابية في ذلك العام، وإقامة مصالحة عائلية - عشائرية بين آل فرنجية بزعامة سليمان فرنجية وآل الدويهي بزعامة الأب سمعان الدويهي. ومهدت المصالحة تلك لترشح الرجلين في لائحة واحدة لانتخابات 1964 النيابية برعاية كميل شمعون وزعامته، ضد النهج الشهابي.

لبنان الزغرتاوي
تستدعي صورة زغرتا هذه ما بين 1951 ومطالع الستينات، ما حدث وتناسل في لبنان كله عندما بدأت حروبه الأهلية الملبننة سنة 1975:
ألا تشبه مجزرة مزيارة ما سمّي حادثة أو مجزرة بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان 1975؟ أولا يشبه أيضاً ما سبق مجزرة مزيارة وما حصل بعدها من حوادث وتوترات واستنفارات وقتل في زغرتا، ما حصل في بيروت وضواحيها قبل "اتفاق القاهرة" (1969) وبعده؟ والاتفاق ذاك أُبرم بين المنظمات الفلسطينية المسلحة وقيادة الجيش اللبناني، ومنح تلك المنظمات معاقل مسلحة على الأراضي اللبنانية، وخصوصاً ما سمي "فتح لاند" على حدود لبنان الجنوبية. وهذا ما أدى إلى شقاق لبناني طائفي واسع بين المسيحيين والمسلمين.

والانقسام العائلي - العشائري الزغرتاوي وتحوله حرباً أهلية بلدية، ونشوء خطوط تماس بين حارات زغرتا، وتبادل أهالي الحارات الثارات والتهجير السكاني، وانغلاق كل حارة على سكانها المتجانسين عائلياً وعشائرياً، ألا يشبه انقسام بيروت طائفياً بين شرقية وغربية، يفصل بينهما خط التماس الحربي، وتبادل البيروتين  التهجير الطائفي والقصف العشوائي؟

وجولات العنف في زغرتا، وتبادل الحارات الاستنفار والحراسة والثأر، اشتدادها وخفوتها والهدنات بينها، ألا تشبه كلها جولات الحرب الأهلية اللبنانية أو الملبننة في حرب السنتين (1975-1976)، وخصوصاً في بيروت؟

والمصالحة العائلية - العشائرية في زغرتا سنة 1964، ألا تشبه كثرةً من المصالحات الجزئية المحلية، وسواها العامة والشاملة، التي تخللت جولات الحروب الأهلية اللبنانية المتناسلة، وصولاً إلى اتفاق الطائف سنة 1990؟

النوم مع الذئاب والهاوية
وتتجلى ملامح الشبه الأبعد والأعمق بين زغرتا ولبنان في تكشُّف الديموقراطية الانتخابية، أو ديموقراطية الانتخابات اللبنانية، عن مشهد زغرتاوي في انتخابات رئيس جديد للجمهورية سنة 1970. فنتيجة تلك الانتخابات أحدثت لغطاً والتباساً وتوتراً، بعد فوز الزعيم الزغرتاوي سليمان فرنجية فيها بفارق صوت واحد على مرشح النهج الشهابي الياس سركيس. والمشهد الزغرتاوي في فوز فرنجية بالرئاسة تلابسه وجوه أربعة، غير بريئة من صلتها القوية بالتراث اللبناني. وهذه الوجوه هي:

- العراضة الزغرتاوية المسلحة أمام المجلس النيابي في ساحة النجمة، احتفالاً بفوز الزعيم الزغرتاوي، ورداً على اللغط الذي أثير حول جلسة انتخاب الرئيس الجديد وفوزه بفارق صوت واحد.

- الوجه الثاني لتلك الملامح الزغرتاوية تجلى في القول الذي أطلقه الرئيس فرنجية شعاراً لعهده الرئاسي، وتوجّه به إلى "الشعب اللبناني": "ناموا وأبوابكم مفتوحة". أي ناموا مطمئنين آمنين وقريري العيون، فأنا ساهر على أمنكم وطمأنينتكم ونومكم الهانئ. وفي السنة الخامسة من عهد فرنجية الرئاسي، استفاق اللبنانيون على نفير حروبهم الأهلية، التي كان رئيسهم قد خبر وعاش نموذجاً مصغراً لها في زغرتا، وشارك هو شخصياً في ثاراتها ومجزرتها، وفرّ إلى دمشق محتمياً بجزار سوريا الموعود، حافظ الأسد.

- الوجه الثالث للملامح الزغرتاوية اللبنانية والملبننة معاً، مداره ما شاع أن فرنجية قاله لأهالي زغرتا، بعد انتخابه رئيساً: "ما بدي شوف حدا منكن فقير، بعد ما صرت أنا رئيس جمهورية". أي أن مؤسسات الدولة وإداراتها نهبٌ لكم وحلال عليكم. وهذا - أي تحويل المناصب والمكانات في إدارة الحكم والمؤسسات مرتعاً لزعماء الجماعات الأهلية وبطاناتهم - ما كان قد نفر منه فؤاد شهاب في عهده الرئاسي (1958- 1964)، وسمَى أولئك الزعماء "أكلة الجبنة"، وعزف عن الترشح للرئاسة مجدداً، وأذاع بيان اعتذار إلى اللبنانيين قال فيه إن الدولة والبلاد سائران إلى الهاوية. وهذا ما تحقق فعلاً في نهايات عهد فرنجية الرئاسي.

- الوجه الرابع والأخير للملامح الزغرتاوية - وهو من طبيعة لبنانية "فولكلورية" راسخة - تجلى في نقل الإذاعة اللبنانية وقائع الاحتفال البلدي الزغرتاوي بفوز فرنجية. كان الإذاعيون شريف الأخوي ومحمد وثريا نور الدين يقدمون في الإذاعة برنامجاً أسبوعياً صيفياً في عنوان "نزهة" لتشجيع السياحة والاصطياف في "سويسرا الشرق". وفي نهار من بدايات شهر آب 1970، كانت "النزهة" إلى زغرتا، بل إلى إهدن على الأرجح. فهذه الأخيرة هي بلدة الزغرتاويين الأخرى ومصيفهم الجردي. ونقلت النزهة الإذاعية رنين أجراس الكنائس، ودق اللحمة في أجران الكبة، مصحوبة بأغاني تمجيد لبنان، طبيعته وأرضه وأهله وكرمهم وشيمهم: "هالكم أرزة العاجقين الكون"، و"قطعة السما"، و"خذني زرعني بأرض لبنان". وقالت إحدى النساء الزغرتاويات عبر ميكروفون الإذاعة، فيما مدقّات الخشب تهوي على اللحم في الأجران الحجرية: "واحد جاب الاستقلال، والثاني الجمهورية". أي أن زعيمي زغرتا الأخوين، حميد فرنجية شارك في "معركة استقلال لبنان"، وأهداه (الاستقلال) إلى زغرتا.  فيما فاز أخوه الآخر، سليمان فرنجية، برئاسة الجمهورية، ووهبها أيضاً لزغرتا.

فلماذا نستغرب اليوم ما يقوله ويفعله ميشال عون في عهده الرئاسي الميمون؟!
(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها