الإثنين 2021/12/13

آخر تحديث: 15:33 (بيروت)

حلب القديمة: طيف عبد الرحمن الكواكبي.. والخراب الأسدي

الإثنين 2021/12/13
حلب القديمة: طيف عبد الرحمن الكواكبي.. والخراب الأسدي
غالبًا ما كان الشيخ الكواكبي يستهل رسائله لزوجته بكلمة يا حبيبتي (Getty)
increase حجم الخط decrease
روى المادةَ الأولية أو الأساسية من سيرة عائلة الكواكبي في حلب، وعَلَمها الأحدث الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، الباحث سلام الكواكبي المقيم في باريس، حيث يعمل مديرًا لفرع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد أُضيفت إلى تلك المادة الأساسية هوامش، ربما توسّع إطارها ببعض التعليقات والملاحظات المستقاة من مصادر أخرى.

النسب وأطياف الطفولة
اسمان أو علمان بارزان هما ركن الرواية النسبية لعائلة الكواكبي الحلبية: محمد أبو يحيى الكواكبي الذي يُروى أن السلطان السلجوقي نور الدين زنكي شيّد تكريمًا له مسجدًا ومدرسة قرب قبره في حلب القرن السادس عشر. وعُرفت المدرسة بالكواكبية التي درس فيها عَلَمُ العائلة الثاني، وباعث اسمها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: صاحب كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، النهضوي أو الإصلاحي في زمنه.

وفي روايتها النسبية الأقدم زمنًا، تُعتبر العائلة من الأشراف المتحدّرين من آل البيت النبوي المحمدي في الحجاز. وانتقل شطر منها إلى أردبيل شمال إيران، ثم إلى حلب شمال سوريا. وعُرفتْ بالكواكبي الموقِّتْ. والكلمتان في ديار الإسلام اسما مهنتين، وربما مهنةٍ واحدة مزدوجة: الكواكبي، أي العارف في شؤون أو علوم الكواكب والوقت.

وحين يروي سلام الكواكبي-المولود في حلب سنة 1965 والمقيم في باريس منذ سنوات- مقتطفات من سيرته، يستهلها بالحديث عن الشيخ عبد الرحمن والد جده: أحيانًا في طفولتي الحلبية كنتُ أتخيّله حاضرًا في مشاهدَ في المدينة القديمة، كأحياء الفرافرة والسويقة والبيّاضة، وفي قلعة حلب ومسجدها الأموي، وأتخيّلني أكلِّمه وأناجيه. وأقربُ شخص إلى عَلَمِ العائلة الأحدث عرفه سلام، هو ابنته عفيفة التي عاشت وعمّرت وتوفيت في حلب عن ما يناهز 112 سنة. فوالداه كانا يتركانه أوقاتًا في بيتها، لتعتني به طفلًا أثناء مشاغلهما ومغادرتهما المدينة. والسيدة عفيفة الكواكبي لم تعرفْ والدها سوى في طفولتها، قبل هجرته إلى مصر ومقتله مسمومًا في القاهرة سنة 1902. لذا، حين كانت تحدّثُ سلامًا الطفل عنه في مطلع سبعينات القرن العشرين، غالبًا ما كانت تروي له حكايات عن طفولتها، يحضر فيها والدها الشيخ عبد الرحمن حضورًا طيفيًّا.

فحين تروي من عمّرت 112 سنة ذكريات طفولتها وحضور والدها الطيفي فيها لطفلٍ سليل عائلتها، لا بد من أن تتحول الروايات أو الحكايات في وعيه ومخيلته صورًا هائمة. والصور هذه راحت تحمله على اقتفاء أثرها في حلب القديمة، حين يمشي طفلًا في حاراتها، مازجًا أو مُسقطًا تلك الصور الضبابية للحكايات على أماكن محددة من الحارات وأزقتها وعمارتها، فيتخيل طيف الشيخ عبد الرحمن الكواكبي حاضرًا أو يرتسم أو يهيم في جنباتها، متحدثًا حديث التخاطر في وعي سلام الطفل.

التراث والمحق الأسدي
وسلام الكواكبي الطفل سرعان ما دهمه، في مطلع فتوته وشبابه، عسفُ نظامَ حافظ الأسد الذي راحت صوره العملاقة الخرساء وجدارياته وأنصابه وكلماته تخيّم على سوريا كلها كسجنٍ أبدي، أغرقها في صمتٍ أمني دموي، أقوى وأعنفَ بأشواط من السجن البعثي والناصري قبله. وقد يكون الصمت المضاعف في هذا السجن، ضاعف في ذاكرة سلام الفتى والشاب ومخيلته قوة الصور والكلمات الضبابية في حكايات طفولته عن إرث العائلة الكواكبية، وقوة حضور طيف عَلَمِها الأحدث، الشيخ عبد الرحمن، قتيل العسف العثماني واستبداده الحميدي الذي تمرّد عليه، فهجّره إلى مصر.

والطفل الذي كان يحضره طيف والد جده في حلب القديمة، حفّزه على الانشغال والاهتمام بها في شبابه إقدامُ نظام الأسد إياه على تخريبها وتشتيت عائلاتها وتمزيق نسيجها ومحو إرثها وأطيافه. والحق أن الانشغال والاهتمام هذين، هما شاغلُ أبناء عائلاتٍ حلبية ودمشقية تقليدية، في توكيدها انتسابها إلى هاتين المدينتين وتراثهما العريق، في مواجهة صامتةٍ أو مكتومةٍ لعسفِ نظام الأسد وتخريبه العمران والاجتماع، للسيطرة الشاملة أو الشمولية على البشر وكَتم أنفاسهم وتصديع علاقاتهم ولحمتهم ومحقهم مع تراثهم.

وقدر ما تنطوي هذه المواجهة الصامتة على تمرّدٍ، تنطوي أيضًا على بعث النسب وتجديده والتعلق به، على ما بيّنت دراسة أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك كريستا سالاماندرا، صدرت في كتاب سنة 2004 عنوانه "دمشق القديمة والحديثة: الأصالة والتمايز في سوريا"، ونَشَرَتْ مقتطفات منه بالعربية مجلة "بدايات"، في عنوان "الاستهلاك في دمشق: الثقافة العامة وبناء الهوية الاجتماعية" (العدد 32، سنة 2021). وورد في هذه المقتطفات أن "التعبيرات الأقوى للمدافعين عن دمشق القديمة، يُعثَر عليها في الأشكال الوسيطة للثقافة"، أي كتب المذكرات والسِّيَر العائلية التي تُعتبر "الوسيلة الرئيسية لتعزيز الإحساس بالهوية الدمشقية". وغالبًا ما يكتب هذه المذكرات والسِّير أبناء "عائلات" مدينية "معتبرة". و"تروي هذه الكتب تفاصيلَ وأحداثَ حياة عبرتْ، وتشكل تراثًا متناقلًا (...) وقصصًا مبعثرة وخيالية مشحونة بالتوتر العاطفي".

وعلى قدر ما هو التصديع والتدمير والتخريب والمحو والمحق صناعة أسدية منهجية، تبرز صناعةُ الإرث والتراث والأنساب عملًا إحيائيًا دفاعيًا، يحاول خلق أرضٍ مادية لهوية متخيَّلة ومنكفئة، وقد تخفف من آلام العيش ومصائبه في "سوريا الأسد".

قتيل الاستبداد
ولد عبدالرحمن الكواكبي سنة 1855 في حلب الشهباء. وهذه صفة لونٍ يميل إلى احمرار برونزي، ويقال إن مصدرها الأول النبي إبراهيم حينما حَلَب العنزة أو البقرة الشهباء اللون. ومدينة حلب شُيّدت بحجارة شهباء. وعندما أصدر الشيخ الكواكبي الجريدة العربية الأولى في حلب سنة 1876، سمّاها الشهباء أيضًا. ولما دعاه السلطان عبدالحميد الثاني إلى زيارة اسطنبول في نهاية القرن التاسع عشر، لبى الدعوة، فعرض عليه أن يولّيه منصبًا دينيًا رفيعًا في عاصمة السلطنة، كي يبعده من حلب وينهي تأثيره الفكري التحرري والإصلاحي فيها، في تلك الحقبة التي كانت تضج بدعواتٍ عربية إلى التحرر من السلطان العثماني وإلى الإصلاح الديني. لكن الشيخ الكواكبي الحلبي رفض المنصب وعاد إلى مدينته قلقًا وموقنًا أن السلطان لن يغفر له رفضه، ولا بد أن يقتصَّ منه، فعزم على مغادرة حلب مرغِمًا نفسه على نفي إرادي في مصر التي كانت آنذاك وجهة مفضلة لهجرات نخَبٍ من التحرريين والإصلاحيين في الديار الشامية واللبنانية، هربًا من العسف العثماني.

وأقام الشيخ عبدالرحمن الكواكبي في القاهرة. وفي نهار من سنة 1902، كان يجلس مع رفيقه أو صديقه الشيخ عبد القادر دباغ، يشربان القهوة في مقهى يلدز القاهري في حي الحسين، وفجأة شعر الكواكبي بالدوار وبألم ممضّ في معدته، فصرخ: لقد قتلوني يا عبد القادر. ووصف الشيخ الدباغ اللحظات الأخيرة من حياة صديقه الكواكبي قائلًا: تمزّقت أحشاؤه وأسلم الروح مسمومًا.

وروى سلام الكواكبي عن السيدة عفيفة ابنة عبد الرحمن أن والدها كان يبعث رسائل من مصر إلى زوجته في حلب، فلا يستهلها بالعبارات التي كانت تُخاطبُ بها الزوجات في تلك الأيام: أم العيال، أو بنت العم، أو حرمنا المصون. وغالبًا ما كان يستهل تلك الرسائل بكلمة يا حبيبتي. وهذا ما لم يكن مألوفًا، بل غريبًا ومستهجنًا من شيخ معمّم يبوح لزوجته في رسائله إليها بعواطف حميمة عصرية، تخالف التقليد السائر في مخاطبة النساء في ذلك الوقت من بداية القرن العشرين.

حِدادٌ الفقد ووحشته
وأصيبت عائلة عبدالرحمن الكواكبي في حلب بنكسة بعد فقدها شيخها وراعيها وعلمها في القاهرة. فهي لم تكن عائلة ملاّكٍ ولا تجارٍ، بل تعود بنسبها إلى عائلات الأشراف وأهل علوم الدين. فزوجته التي آلمها فقد زوجها الشيخ، سارعت إلى العمل في منزلها خيّاطة لجيرانها من أهل الحارة الحلبية.

وهذا عمل ينطوي عادةً على الفقد والحِداد والانتظار. لكن زوجة الشيخ الراحل لم تعمّر طويلًا بعده، فتوفيت مكتئبةً لفقده، ومكثت ابنتها الطفلة عفيفة وحيدة يرعاها أقاربها في منزل العائلة، فعمّرت مديدًا وروت لسلام الكواكبي الطفل شذرات من ذكريات طفولتها عن والدها في ذلك المنزل القديم.

ربما كانت السيدة المسنّة عفيفة تدفعُ عنها الوحشةَ والوحدة باستعادة صور الماضي وأطيافه البعيدة التي غذّت مخيلة سلام فتبرعمت وتفتحت في وعيه، وراح يقتفي أثرها البعيد في أحياء حلب القديمة، وها هو يروي شيئًا منها في باريس: كاظم، نجل عبد الرحمن الكواكبي كان مع والده لما قُتل مسمومًا في القاهرة. هو وأخوه الآخر درسا الطب والصيدلة في اسطنبول. وأخوهما الثالث، والد والدي، درس الهندسة الزراعية، واضطر إلى بيع منزل العائلة القديم في حلب، حيث كانت حياتهم صعبة وعرفوا شيئًا من ضيق ذات اليد والفقر.

لكن لا بد من سؤال في هذا السياق من سيرة أبناء الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الذي قتلته دعوته إلى التحرر من الاستبداد والجهل، وإلى العلم العصري والإصلاح الديني: هل تحققت دعوته تلك في جيل أبنائه الذين درسوا علومًا عصرية أو دنيوية، كالطب والصيدلة والهندسة الزراعية؟

ربما يفضي إلى الإجابة عن هذا السؤال، استكمالُ هذه المقتطفات من سيرة العائلة الكواكبية بحلقة ثانية مقبلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها