السبت 2021/10/02

آخر تحديث: 11:33 (بيروت)

طلبات مستعصية أمام الخيّاطين: بنطال بقياسين!

السبت 2021/10/02
طلبات مستعصية أمام الخيّاطين: بنطال بقياسين!
الحرب التي تطال جيوب الناس أصعب من تلك التي تطال أرواحهم! (Getty)
increase حجم الخط decrease

اجتاحت الأزمة الاقتصادية جيوب اللبنانييّن، فلم تعد قدرتهم الشرائيّة تخوّلهم اقتناء الملابس الجديدة كما اعتادوا سابقاً. تخلى المواطنون عن حياة الترف وتأمين الكماليات إلى حد الاقتصاد بمداخيلهم المحدودة لتأمين قوت يومهم؛ فانتقلوا من محلات الماركات إلى سوق البالة ومن ثم إلى الخياط لتصليحها.. مما أدى إلى ازدهار مهنة قديمة "منسية"، ألا وهي "الخياطة".

التماس الصبر
"عم يعطوني ثيابهن الداخلية لرقّعها..!". بهذه العبارة استهل حديثه حسين حيدر المعروف بأبو عباس، وهو مسن في العقد السابع من عمره، يعمل في خياطة الثياب، التي امتهنها منذ الصغر بسبب عدم قدرة أهله على إدخاله المدرسة، وبدوره فقد نقلها لزوجته لتعيله في هذه المصلحة. وحال "أبو عباس" كحال جميع اللبنانيين. فهو يعاني من ضيق مادي بات يقف حاجزاً أمام تأمين مصاريفه اليومية لعائلته، فالمدخول محدود والمصاريف كبيرة. إذ يحتاج شهرياً إلى أكثر من مليوني ليرة لبنانية لدفع إيجار محله واشتراك الكهرباء فقط، ناهيك عن حاجته لشراء مستلزمات محله (كالخيطان والإبر وما إلى هنالك) وتأمين قوت عائلته اليومي. وقد وصل به الأمر إلى التنقل سيراً على الأقدام من بيته للمحل الذي يبعد عنه حوالى 40 دقيقة ليوفّر 25 ألف ليرة يومياً للمواصلات! فالأزمة أجبرت بناته الثلاث على الدخول في سوق العمل أيضاً لتأمين كلفة تعليمهن في الجامعة اللبنانية.

بين زوايا جدران محل أبو عباس الكامن في الضاحية الجنوبية، تتبعثر ثياب الزبائن يميناً وشمالاً، تنتظر شفقة صاحب المولد لإضاءة الكهرباء لبضع ساعات، ليستطيع إتمام عمله المتراكم. وفوق ماكينة خياطته تغطي الحائط صورة زعيمه السياسي الذي ينتمي إليه ويلتمس الصبر منه -على حد قوله- ويشرح لـ"المدن" كيف أضحت حالة الزبائن التي تقصده، فالناس لم تعد قادرة على شراء الثياب الجديدة بسبب كلفتها الباهظة. ويضيف بأن إحدى زبوناته القدامى التي اعتادت إحضار أجمل الملابس لتقصيرها أو تضييقها، "اليوم عم تجبلي ثياب داخلية لصلّحها بسبب ارتفاع سعرها!" فبعدما كانت أسعار الثياب الداخلية لا تصل إلى  أكثر من عشرة آلاف ليرة في المحلات الشعبية، يصل اليوم ثمن القطعة الواحدة لأكثر من 80 ألف ليرة.

وقد انتقل البعض من زبائنه، الذين كانوا قبيل عام ونصف ميسورين مادياً، من شراء الألبسة الجديدة إلى شراء الألبسة المستعملة -البالة- ويقوم بدوره بتصليحها لتصبح شبه جديدة. أما البعض الآخر، فصار يأتي بثيابه وثياب أطفاله القديمة لتصليحها. فالجينز الواحد وصل سعره إلى 500 ألف ليرة لبنانية بعدما كان لا يتخطى الـ100 ألف! 

ترقيع الجوارب
"بطلت قادرة جيب كلسات جداد ..عم صلّح القدام عند الخيّاطة"! تُعبّر مهى اسماعيل وهي إمرأة في العقد الرابع من عمرها، متزوجة وأم لطفلين، عن تردي الوضع الاقتصادي؛ فوصل بها الحال إلى ترقيع "جراب" أطفالها عند الخيّاطة. فهي لم تعد قادرة على إقتناء الجديد منها! بعدما وصل سعرها إلى 35 ألف ليرة لبنانية وقد كان سابقاً 1500 و2000 ليرة لبنانية. وتضيف بأن زوجها يعمل سائق أجرة، ويغيب من "الفجر حتى النجر" ليستطيع تعليم أطفالي ودفع أقساط المدرسة! وما بين دفع إيجار المنزل الذي يرتفع سعره كل شهر وما بين تأمين الطعام والأدوية لطفلي الذي يعاني من الربو، وما بين طابوري المحروقات والغاز؛ أقف عاجزة أمام مسؤولياتي كأم بتأمين حياة لائقة بأطفالي. ورغم حرمانها من الكثير من الكماليات إلا أنها قد طلبت المساعدة من إخوتها لتستطع تأمين كلفة شراء الكتب المدرسية والملابس المدرسية.

وقد شعرت في البداية بالكثير من التردد والإحراج عند قصدها محل الخياطة، ولكن لا خيار أمامها، وبالتالي فقد تفهمت الأخيرة طلبها. فطلبها بات يُشبه حال معظم الزبائن الآخرين الذين يعانون من فقر مدقع!

إبرة وخيط وتقطيب صرخة الخياط !
ووفقاً لشهادات خياطات تحدثن إلى "المدن"، تبدلت حالة محالهن. فمن جهة، معدات الخياطة باتت باهظة الثمن، فهن بحاجة أسبوعياً إلى الإبر والخيطان والسحابات التي أصبح سعرها بالدولار الأميركي أو حسب سعر الصرف بالسوق السوداء. وبعدما كانت محلاتهن تعج بالبضاعة؛ اليوم تُشترى البضاعة بكمية قليلة جداً وحسب الطلب. فالخيط كان سعره 2$ أي ثلاثة آلاف ليرة لبنانية قديماً. أما اليوم فسعره يصل إلى 20 ألف ليرة لبنانية، أما أكياس السحابات التي كانت تضم 50 سحاباً بسعر 5 $ أي 7500 ليرة قديماً، اليوم أصبح سعرها يلامس 100 ألف ليرة، أما الأبر التي يكاد يصل سعرها إلى 2000 ليرة للربطة الواحدة، اليوم صارت 20 ألف تقريباً. وبالتالي فإن ارتفاع أسعار المستلزمات أدى بدوره إلى ارتفاع كلفة التصليح، ليتحمل عبئها الزبون طبعاً؛ فتقصير أو تضييق القطعة كان 3000 ليرة ليصبح اليوم 10000 ليرة لبنانية، أما تغيير سحاب القطع فأصبح اليوم 15 ألف ليرة بعدما كان 8000 ليرة لبنانية.

كل هذه التغيرات أدت إلى إنخفاض الجودة في التصليح، فالخياط اليوم يبحث عن البضائع الرخيصة ليراعي الزبون، وقد وصل بهم الأمر إلى الطلب من الزبون نفسه إحضار القماش أو "البطانة" اللازمة لتصليح قطعته، حتى لا يشكو الأخير من ارتفاع ثمن التصليح! وقد استبدلوا الأزرار المعدنية بالأزرار البلاستيكية بسبب ارتفاع ثمنها، فالزر المعدني بـ5000 ليرة لبنانية أما البلاستيكي فسعره 1000 ليرة لبنانية.

ومن جهة أخرى، فاطمة العلي وهي خياطة قديمة في محلها في صفير، تعلمت الخياطة في معمل للتطريز قديماً بسبب وضعها المادي الصعب، الذي حال أمام إكمال تعليمها المدرسي، واستطاعت بعد خبرة جنتها من عملها في المعمل لسبع سنوات أن تفتح محلاً متواضعاً خاصاً بها، لتكمل مسيرتها بين آلات الخياطة، وهي عزباء في العقد الخامس، تعيش مع والدتها التي تهتم بها وحدها، فلا معيل للعائلة غيرها! وفاطمة كغيرها من الخياطات تشكو من هذا الوضع. فمحلها اليوم بات شبه فارغ بسبب نفاد البضائع وعدم قدرتها على شراء كميات كبيرة كما اعتادت سابقاً، بسبب ارتفاع سعر الدولار. وقد قسمت محلها لتبيع الإكسسوارات والثياب النسائية بكلفة أقل من السوق. ولكن كل هذه المحاولات لم تجد نفعاً. فالسوق اللبناني اليوم بحالة جمود.. "فكل أسبوعين لأبيع قطعة واحدة".

وإلى جانب كل هذه الصعاب التي تعاني منها صاحبات المهن الحرة، تقف الكهرباء حاجزاً أمام عملهن! فاليوم تدفع فاطمة ما يقارب 1.2 مليون ليرة لبنانية لصاحب المولد الكهربائي لينير ظلمة محلها 5 ساعات يومياً وبشكل متقطع، فبعدما اعتاد زبائنها على دوامها اليومي بين الساعة التاسعة صباحاً حتى السابعة مساء، يراسلونها هاتفياً اليوم لحجز موعد لتصليح ملابسهن! مما أدى إلى بقائها في محلها حتى ساعات متأخرة من الليل لحين انتهاء عملها المتراكم! وتقول فاطمة إن طلبات زبائنها أصبحت غريبة ومحزنة في آن؛ فإحدى زبائنها قد أحضرت الأسبوع الفائت ست "فانيلات" لزوجها لتتولى تقطيبها وترقيعها لأن الواحدة منها قد صار سعرها 60 ألفاً بعدما كانت 7 آلاف ليرة! وللوهلة الأولى فوجئت بهذا الطلب، فقد كانت الفانيلات مهترئة وغير صالحة للتصليح! ولكنها لم تستطع رفض طلبها فقامت بتمزيق واحد منها واستعماله لإصلاح الباقي!

فحاجة الزبون اليوم أضحت مُلحة، وعلى الخياط مراعاة هذه الطلبات!

أسوأ من الحرب
ولأن الخياطة تلبي حاجات الزبائن كافة، فقد شهدت إقبالاً غير مسبوق في هذه الأزمة. فبعدما كانت منسية إلى حد ما بسبب اقتحام الآلات المتطورة السوق اللبناني، أصبح اليوم الخياط ملجأ الفقراء والمحتاجين! فمحمد الأحمد، وهو من الجنسية السورية، يعمل في محل  للخياطة والتطريز في ضواحي بيروت، وهو أب لأربعة أطفال، في منتصف العقد الثالث من عمره، وقد تعلم الخياطة في سوريا في معمل لتصنيع فساتين السهرة والأعراس، وأتى إلى لبنان بسبب الحرب السورية للاهتمام بعائلته. وقد أدخل أطفاله في المدارس الرسمية اللبنانية لتلقي علومهم منذ الصغر. وبسبب خبرته الواسعة في تطريز الفساتين، وإلى جانب عمله في المحل، يقوم بعمله الخاص من المنزل ليلبي حاجات زبائن عدة بكلفة أقل من السوق. وقد أنشأ صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي بإسم المعمل؛ وتعرض تصاميم عدة إضافة إلى تصليح أعطال الفساتين الناجمة عن كثرة الاستعمال.

يصف محمد أزمة لبنان بأنها أصعب من حرب سوريا. فالحرب التي تطال جيوب الناس أصعب من تلك التي تطال أرواحهم! فالأب صار اليوم يتمنى الموت إذا لم يستطع تأمين الحاجات المادية لعائلته، "والحرب بتخلص بس الفقر ما بعمرو بيخلص!".

ومن الطلبات المضحكة والمبكية في الوقت نفسه التي تصادف محمد يومياً خلال دوام عمله في المعمل: شقيقتان طلبتا منه تضييق بنطالهما المشترك بطريقة ما ليستطعن ارتداءه كلتاهما!

في البداية ظن محمد بأنها دعابة ولكنها لم تكن! فكل فتاة تملك وزناً مختلفاً عن الأخرى، أي أن لكل واحدة مقاساً مختلفاً كلياً عن شقيقتها؛ ولا يخفي أحمد بأن الأمر كان صعباً فهو لم يعلم كيف سيصلحه!

ولأنه مخضرم بين الخيطان، فابتكر طريقة حيث ضيّق البنطال من جهة واحدة عبر "مغيط" لتتمكن  الاولى من ارتداءه وبالتالي تستطيع الأخت الأخرى ارتداءه أيضاً بعد انتزاع المغيط ليناسب وزنها!  وبهذه الطريقة يكون محمد قد أرضى كلا الطرفين!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها