السبت 2021/10/16

آخر تحديث: 16:23 (بيروت)

الكعكة الطرابلسية: عربات متوارثة لـ"رفاهية" الفقراء

السبت 2021/10/16
الكعكة الطرابلسية: عربات متوارثة لـ"رفاهية" الفقراء
مئات عربات الكعك المنتشرة هي واحدة من سمات المدينة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

منذ 40 عاماً، يجلس عدنان رحمون (70 عاماً) أمام عربته لبيع الكعك في ساحة النجمة، في طرابلس، من الساعة السادسة صباحاً حتى الغروب. يغلب التعب تجاعيد وجهه المسمرّ من أشعة الشمس، وقد واكب من وراء عربته، تحولات المدينة وأهلها، "بعد أن تذوق العابرون على مدار عقود الكعك الشهي من صنع يدي"، وفق تعبيره. 

مكافأة التهذيب
يدرك رحمون أن الكعك الطرابلسي، هو الخبز اليومي لأهالي المدينة، الذين اعتادوا على طقوس الوقوف أمام العربات، لشراء الكعكة المحشوة بالجبن العكاوي، والمشوية على الفحم، لدى عبورهم، ويقدمها بعض الأهالي كمكافأةٍ لأطفالهم إذ مشوا بهدوءٍ أثناء تجولهم، وفي الأعياد أيضًا.  

وتحمل مئات عربات الكعك المنتشرة في المدينة وداخل أحيائها وأسواقها وحول مدارسها، رمزاً اجتماعيًا عميقًا، يتجاوز كونها مجرد وجبة لمحبيها. إنها بمثابة الخبز، وتحديداً لأبناء الفقراء، الذين كان (وما زالوا) يعجزون عن شراء أصناف أخرى باهظة الثمن بالنسبة لقدراتهم المادية المحدودة.  



"أيام البحبوحة"
قبل الأزمة الاقتصادية وانهيار الليرة، كانت الكعكة تُباع في طرابلس بين 500 وألف ليرة، وتزيد بضع ليرات، حسب الطلب.  

أمّا اليوم، فيبدأ سعرها من 6 آلاف ليرة وما فوق، ويتغير يومياً على وقع هبوط سعر صرف الدولار وصعوده.  

يأتي رجل بصحبة ثلاثة من أولاده، نحو عربة رحمون، يسأل عن سعر الكعكة، ثم يمسك أيديهم قائلاً "ليس وقتها"، ويمضي. يروي رحمون كيف عاش أيامًا من البحبوحة من وراء عربة الكعك، لأن مجال الربح كان أوسع، و"مصاريفنا لم تكن بهذا الحجم". 
وقال لـ"المدن": "سابقًا، كنا نبيع مئات حبات الكعك يومياً، يطلب الزبائن أكثر من حاجتهم، بسبب طيبتها وسعرها الزهيد". 
أما اليوم، فـ"أبيع 30 حبة كحد أقصى، ولا يبقى لي منها كربحٍ صاف سوى 30 ألف ليرة".  

يُخرج من جيبة لائحة بأسماء الأدوية التي يحتاجها، يختنق صوته حزنا، ويقول: "لست قادرٍ على شرائها، وإن وفرت المال لا أجدها في الصيدليات".  

عربة عمرها 60 عاماً
يتوافق معه أبو سامر (47 عاماً)، الذي ورث عن والده عربة الكعك في السوق العريض، ويبلغ عمرها نحو 60 عاماً، وشهدت على تحولات كبيرة في نمط العمل والمبيع.  

يعمل أبو سامر بكدٍ يومياً وراء عربته التي يعيش منها أولاده الخمسة. قال لـ"المدن": "أبذل جهداً كبيراً لجذب الزبائن العابرين، وقد تغيروا علينا، وربما هم من الفقراء الجدد، لأن من يعيش فقراً مدقعا تراجع إقباله على عربات الكعك الطرابلسية".  

سابقاً، كان لا يحتاج بائعو الكعك المناداة للزبائن، نظرًا لكثافة الإقبال عليهم وكانت معظم العربات محاطة دائرياً بعدد من الناس الذي ينتظرون دورهم. أمّا اليوم، فقد تمر ساعات بانتظار عبور زبائن يُعدّون على اليد. ما يدفع أصحاب العربات إلى وضع الكعك بالأكياس بدل عرضها، ويشعلون الفحم لشويها عند الحاجة، بينما استغنى معظمهم عن الاستعانة بالشواية الكهربائية، بسبب أزمة الكهرباء.  

التحول والأفول 
يشير أبو سامر أن أزمة بائعي الكعك في طرابلس، هي بالكلفة الباهظة لأسعار المواد الأولوية، وأن الفقراء لم يتعودوا على هذا التحول. تقاطعه سيدة كانت تنتظر تجهيز كعكتها قائلة: "كنا سابقا نشتري 5 كعكات بـ5 آلاف ليرة، اليوم صارت بـ 30 ألف ليرة، أي ما يوازي مدخولنا اليومي".  

تشتهر طرابلس منذ عقود بظاهرة العمل على العربات المنتشرة بكثافة، داخل الأسواق وعلى الكورنيش البحري. ورغم أن البلديات المتعاقبة كانت تعمل على إزالتها لكونها تشكل اعتداءً على الأرصفة والأملاك العامة، كانت غالبًا تغض الطرف عنها، بعد أن شكلت خيارًا بديلًا لمئات الشبان وكبار السن للعمل من حسابهم الشخصي من دون أن يتكبدوا تكاليف باهظة، في مدينة تشكو من شح كبير بفرص العمل.  

لكن اليوم، حتى مع تغاضي البلدية عن انتشار العربات، تراجع إقبال الناس عليها بسبب الأزمة الاقتصادية. فلا أصحابها قادرين على تحمل فاتورة العمل، ولا فقراء المدينة قادرين على شراء وجبات صارت ترفًا، بعد أن كانت خبزهم اليومي.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها