الخميس 2021/01/28

آخر تحديث: 00:26 (بيروت)

مساعدات للأسر الأشد فقراً: زبائنية المعوزين لا التنمية

الخميس 2021/01/28
مساعدات للأسر الأشد فقراً: زبائنية المعوزين لا التنمية
البرنامج لا يصلح لحل أزمة الفقر التي نعاني منها (Getty)
increase حجم الخط decrease
قد يختلف مشروع دعم الأسر الأشد فقراً (من قرض وافق عليه البنك الدولي للبنان، وقيمته 246 مليون دولار) عن المشروع السابق للبنك. لكن مشكلاته البنيوية ستجعله مشروعاً فاشلاً بكل المقاييس. بل ستجعل الخلل السابق مضاعفاً ثلاث مرات أو أربع، بسبب مضاعفة الأسر المستفيدة.
وبينما ذهبت التحليلات إلى مشكلة خسارة الأسر نحو 30 في المئة من الدعم، هو الفرق بين سعر صرف الدولار في السوق وسعره الذي حددته وزارة المالية بـ6240 ليرة، إلا أن المشكلة الأهم أن هذا القرض لن يؤدي، كما ادعت وزارة المالية، إلى دعم "شبكة الأمان الاجتماعي".

وهذه الخلاصة توصلت لها "المدن"، من خلال حديث مفصل مع الخبير الدولي في التنمية ومكافحة الفقر، أديب نعمة، حول المشروع الحالي، الذي هو عملياً استكمال لبرنامج سابق نفذه سابقاً البنك الدولي، رغم الاختلافات بينهما. علماً أن نعمة عايش تنفيذ المشروع السابق وعمل خبيراً مدة 25 عاماً في مشاريع التنمية ومكافحة الفقر في منظمات الأمم المتحدة. وكان مدير مشروع مكافحة الفقر في لبنان في وزارة الشؤون الاجتماعية، لصالح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وكان أيضاً من ضمن فريق العمل الذي أعد الورقة الاجتماعية لمؤتمر باريس 3.

المشروع الأول
ووفق نعمة، وضع البنك الدولي المشروع الأول في العام 2008 لاستهداف الأسر الأشد فقراً مستنداً إلى خطة الحماية الاجتماعية التي أقرت في مؤتمر باريس 3. لكنه لم يأخذ منها إلا اقتراح مساعدة الأسر الفقيرة. واقترح البنك الدولي حينذاك برنامج المساعدات القائم على التحويلات النقدية، ورُفض المشروع لأنه يعزز المحاصصة والزبائنية. فتقرر دعم 43 ألف أسرة بمساعدات تدفع عنها رسوماً للمياه والكهرباء ومساعدات مدرسية وتغطية 15 في المئة فرق استشفاء على حساب وزارة الصحة. وانتهى المشروع باقتصاره على المساعدات المدرسية. وحتى الاستشفاء اعترته مشاكل في التطبيق بعدما رفضته المستشفيات. وكان بلا جدوى، وحصلت ازدواجية في مساعدات المستفيدين من برامج أخرى من جهات ومنظمات أخرى.

مشروع فاشل
وأوضح نعمة أن وزارة الشؤون، وبطلب من البنك الدولي، قيمت المشروع بعد قضايا فساد وتلاعب، لمعرفة المبالغ التي أنفقت على المشروع لغاية العام 2015. وتبين أن 50 في المئة منها ذهبت رواتب للموظفين ومصاريف إدارية. فقد وصل عدد الموظفين في المشروع إلى 700 شخص. وهذه إحدى المشكلات التي دفعت البنك الدولي لتغيير مدير المشروع بعد ست سنوات، مكتشفة أنه زور شهادته عبر عمليات احتيال. وطرد من منصبه.

وكشف التقييم أن نحو 35 في المئة من الاستمارات التي ملأها المستفيدون، لم تملأ من الأشخاص المعنيين، بل عبر البلديات والمخاتير، متجاهلين معيار الفقر، بل طُبق فيها منطق المحاصصة الطائفية والمناطقية. والنظام الإلكتروني الذي فرز المستفيدين قائم على معايير غريبة: مثلاً استبعد عائلات فقيرة معدمة لأن في بيتها مكيفاً للهواء، كانت بحاجة له بسبب وقوعها في الطوابق السفلية تحت الأرض. وذهبت المساعدات لعائلات أخرى أقل فقراً، لأن ليس لديها هذا المكيف. كما أن الموظفين الذين كانوا يساعدون الأسر في ملء الاستمارات كانوا يتدخلون ويطلبون منهم عدم ذكر ملكية معينة كي لا يستبعدهم النظام الإلكتروني.

والأهم أن المشروع لم يقيم بشكل شامل حتى اليوم، لمعرفة ما إذا كان أدى هدفه في انتشال الأسر من الفقر. وكان يتوجب معرفة ما إذا كان اختلف وضعهم أم لا. فلا يجوز أن تستمر المساعدات إلى ما لا نهاية. ولم يجر تقييم الأشخاص المستفيدين وازدواجية حصولهم على المساعدات من مشاريع أخرى في وزارات أخرى. وهذا بسبب أن البيانات العائدة لهم مستقلة ومنفصلة عن باقي البيانات في باقي الوزارات.

في النتيجة نسبة الفقر لم تنخفض ولا الذين استفادوا منه تحسنت ظروفهم، وتلقوا الفتات. إنه مشروع فاشل بكل المقاييس. وكان يجب أن يصمم وفق برامج تنموية وخلق فرص عمل يحتاجها لبنان، كما يقول نعمة.

تكرار الفشل أضعافاً
والمشروع المقترح اليوم - بحسبه - لا يختلف عن السابق مع فرق التحول إلى برنامج التحويلات النقدية. والأسوأ اليوم، وفق نعمة، أن عدد المستفيدين من المشروع سيرتفع من 43 ألف أسرة إلى 147 ألف، وقد يصل الرقم إلى 200 ألف إذا حصلوا على تمويل إضافي. وبما أن المشروع السابق كان فاشلاً وفضائحياً، ما سيحصل عملياً أن الفشل والفضيحة سيتضاعفان ثلاث مرات، حسب ارتفاع عدد الأسر.
والمبلغ المرصود (246 مليون دولار) كبير ومضاعف مرات عدة عن السابق. وهذا يفتح شهية السياسيين والأحزاب أكثر من السابق. وقد يقولون إنهم عالجوا ثغرات المشروع السابق، لكن هذا مجرد هراء. فالآلية إياها. وبمعزل عن عدم الثقة، الإدارة القيمة على المشروع الجديد هي نفسها.
ورغم أن المشروع الجديد لن يقوم على بيانات الأسر السابقة، وقد يستخدمون البيانات التي وضعت عندما قدموا مساعدات الـ400 الف ليرة التي وضعتها البلديات على قاعدة الزبائنية، بعد جائحة كورونا، وبيانات أخرى من خلال الموقع الإكتروني لتسجيل الأسماء عليه. يؤكد نعمة إن نصف الذين سيستفيدون فقراء ومستحقين، لكن المشروع سيدار وفق شبكة الزبائنية المعتادة.  

آلية المشروع الجديد
وشرح نعمة آلية تنفيذ المشروع. وهو يقوم على إجراء حسابات لبعض المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، لاستخلاص مَن مِن العائلات تستفيد من المشروع. واعتُمِد لذلك نظام علامات لاختيار عشرين في المئة من الأسر التي تنطبق عليها صفة الفقر المدقع. وعملياً، وفق نظام الدخل في لبنان، سيقع الخيار على الأسر التي تتقاضى الحد الأدنى للأجور وما يقل عنه، أي الذين دخلهم أقل من 650 ألف ليرة.

لنضرب مثلاً من عائلتين: عائلة (أ) مؤلفة من خمسة أفراد دخلها أقل من الحد الأدنى، أي 600 ألف ليرة. وعائلة (ب) من خمسة أفراد دخلها 800 ألف ليرة. بعد المسح تصبح العائلة (أ) مستفيدة والعائلة باء غير مستفيدة. العائلة (أ) تحصل على 200 ألف ليرة للعائلة و100 ألف ليرة أخرى لكل فرد، أي ما مجموعه 700 ألف ليرة. يضاف إليها دعم عن الأولاد بين سن 13 و16 سنة كمنح تعليمية: 160 ألفاً للذين عمرهم 16 سنة، و100 ألف للذين عمرهم 13 سنة، جزء منها تدفع كمساعدة نقدية والباقي تسديد أقساط مدرسة. ويصبح مجموع المساعدة للعائلة (أ) 960 ألف ليرة شهرياً، ما يعني أن دخلها أصبح مليون و560 ألف ليرة بعد إضافة الدخل الأساسي. أما العائلة (ب) فلا تحصل على أي مساعدة.

عملياً سينقلون العائلة (أ) إلى مرتبة أعلى من العائلة (ب)، فتصير ضمن فئة الثالثة. لكن ماذا عن الفئتين السابقتين؟ لا شيء. بالعكس حرمنا هذه الفئات التي تحتاج للمساعدة. فمنطق هذا المشروع قائم على استهداف فئة محددة، هي الأشد فقراً، لكنه يستثني كل الفئات التي باتت بحاجة لمساعدة. هذا رغم أنه يجب أن تشمل المساعدات النقدية نحو 60 في المئة من اللبنانيين في ظل الأزمة الحالية. ويجب أن تكون موقتة. ولا تستمر إلا لفئة قليلة بحاجة لها مثل المسنين، كما يقول نعمة.

مقاربتان مختلفتان
هذا البرنامج صمم كي تستفيد منه العائلات التي عدد أفرادها كبير وتحديداً المراهقين. بينما الحاجة الأساسية للبنانيين اليوم هي الصحة. فالعائلة المؤلفة من رجل وامرأة مسنين ودخلهم نحو 400 ألف ليرة، تحصل على 200 ألف ومئتين إضافيتين عن كل فرد. فهل تحل مشكلة هذه العائلة، طالما لم يلحظ البرنامج موضوع الصحة وكيفية تأمين الدواء؟ بالطبع لا.

ستشمل المساعدات التعليمية 87 ألف تلميذ في المدارس الرسمية أعمارهم بين 13 و18 سنة من الأسر التي اختيرت. وهنا نرى أن في الصف الواحد يستفيد مثلاً عشر طلاب من أصل أربعين، عبر دفع رسوم التسجيل والكتب والقرطاسية وأجهزة للتعلم عن بعد. باقي الطلاب لا يستفيدون من شيء. رغم أن كل طلاب المدارس الرسمية هم من الأسر الفقيرة.

ويسأل نعمة: هل هذا التدخل للبنك الدولي مفيد ويصلح لحل أزمة الفقر التي نعاني منها؟ الجواب الحاسم، لا.

في السياسيات الاجتماعية هناك مقاربتان: واحدة تنطلق من حقوق الإنسان وأن كل شخص له الحق في الحماية الاجتماعية بمعزل عن الفقر. وتعتمد مفهوم التنمية وحقوق الانسان وتتجه إلى سياسات الحماية الاجتماعية التي تشمل الجميع من دون استثناء. أي ليس مكافحة الفقر بل مكافحة اللامساواة والوصول إلى الحق في الاستقرار الاجتماعي. وقد تلجأ هذه المقاربة للمساعدة النقدية، لكن بشروط فرعية ومن ضمن منظومة الحماية الشاملة وسياسات عامة مثل التعليم المجاني والرعاية الصحية وتعويضات البطالة والأمومة وحوادث العمل، وضمان الشيخوخة.

لكن المقاربة الأخرى تقوم على الاستهداف بشبكات الأمان الاجتماعي التي يقوم بها البنك الدولي وغيره، لمكافحة الفقر. وهي تحدد الفقراء وتقدم مساعدات وتحويلات نقدية تكون أحياناً مشروطة. وكل التجارب العالمية تثبت فشل هذه المقاربة عندما لا تترافق مع سياسات اجتماعية في الدول.

وللتذكير، عندما اقترح البنك الدولي هذا المشروع أقر أن نظام الحماية الاجتماعية في لبنان مبعثر وتعتريه الازدواجية في الأشخاص الذين يحصلون على مساعدات، بينما الأشخاص الذين يستحقون محرومون، والعكس صحيح. 

حماية زبائنية
ووفق نعمة، ما يجب أن يعلمه الجميع أن المشمولين بالحماية الاجتماعية في لبنان نسبتهم نحو 10 في المئة، لأن لديهم نظام حماية الشيخوخة وتعويضات. لكن أكثر من نصف القوى العاملة بلا ضمانات ولا حماية. ونظام المساعدات الاجتماعية مبعثر وطابعه زبائني.

أما البديل، فعلى المشروع أن يقوم على تحديد أرضية الحماية الاجتماعية التي تشمل كل الأسر. يمكن وضع معيار يستثني نسبة معينة من الأسر وفق مبدأ الثروة التي تمتلكها، أو وفق معيار التعويضات التي تحصلها العائلة من الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة أو الجيش اللبناني وغيرها. لأن هذه الأسرة لديها دخل ثابت وتأمينات صحية وتعليمية وغيرها. أما باقي الأسر فيجب شملها بالمساعدات، فلا يقتصر الأمر على منح المساعدات لأفقر عشرين في المئة من الأسر.

معيار الفقر في المشروع محق. لكن أي مشروع يهدف لتأمين الحماية الاجتماعية يجب أن يأخذ بمعيار العمل والصحة. من فقد العمل كلياً أو جزئياً أو من انخفض دخله نتيجة البطالة، سواء من صرف من العمل أو المياومين الذين لا يعملون. وفي ظل الأزمة الصحية الحالية هناك نحو ستين في المئة من اللبنانيين باتوا بحاجة لمساعدات.

حادثة معبرة
يروي نعمة حادثة معبرة حصلت سابقاً لاستشراف كيفية انتهاء مشروع التحويلات النقدية الحالي إلى الفشل. في اجتماع حصل في السرايا الحكومية في العام 2008، عندما قدم وفد البنك الدولي المشروع القائم على التحويلات المالية للأسر الأشد فقراً، اعترض فؤاد السنيورة آنذاك على هذا المبدأ كي لا ينتهي محاصصة وفساداً. حاجج الوفد بأن المعايير الموضوعة واضحة ومعادلة اختيار الأسر سرّية ولا يستطيع أحد معرفتها أو التدخل فيها. وحتى البنك الدولي لا يعرف مسبقاً الأشخاص المستفيدين. لكن السنيورة قال لهم: حتى مع هذه الضمانات، نحن بلد قائم على المحاصصة، والدفع النقدي يعني استدعاء الفساد والزبائنية. والنقد يفتح شهية الجميع للمحاصصة. ولا أستطيع أن أوقف الوساطات التي تقوم بها الأحزاب وأي طائفة للمطالبة بحصص. فألغي المشروع وأقر الآخر الذي انتهى بفشل ذريع، كما أسلفنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها