السبت 2021/01/23

آخر تحديث: 14:43 (بيروت)

سيرة شابة علمانية: بكاء مرير بألمانيا..ونفور من العصبيات بلبنان

السبت 2021/01/23
سيرة شابة علمانية: بكاء مرير بألمانيا..ونفور من العصبيات بلبنان
يتمحور النشاط الطلابي للمحازبين على التعبئة الغرائزئة والولاء لزعماء الجماعات الطائفية (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease
كانت فيرينا في الثامنة من عمرها سنة 2004، لما راحت تصيبها نوبات بكاءٍ مستمر في ألمانيا، وقالت لوالديها المقيمة معهما هناك إن رغبةً قوية في العودة إلى لبنان تلحُّ عليها وتتملكها حتى البكاء، ولم تعد تطيق العيش في ألمانيا. كانت سنوات أربع قد مضت على مغادرتها لبنان مع والدتها، والتحاقهما بوالدها الذي كان سبقهما في رحيله إلى ألمانيا، وإنشائه مطعماً هناك.

والدا فيرينا من بلدة رميش المارونية على حدود لبنان الجنوبية. لكن أسرتها كانت تقيم في بيت مري، فيما والدها يتنقل بين لبنان وألمانيا التي يدير عمله فيها. أما أقوى ما ترسب في وعي فيرينا الطفلي وذاكرتها عن لبنان، وألحّ عليها في ألمانيا، فكان طيف جدها وجدتها في رميش التي كانت أسرتها تزورها وتصطاف فيها، قبل مغادرتها لبنان مع أمها. ولما اشتدت عليها نوبات البكاء في ألمانيا وتفاقمت، اصطحبها والدها إلى عيادة طبيب هناك لتشخيص حالتها. وبعد معاينتها واستماعه إليها وانتباهه إلى ورم حول عينيها، جراء شدة نوبات بكائها، أنذر والداها باحتمال انفجار شرايين في دماغها أو عينيها، وأشار عليهما أن يفعلا ما تريد ويعيداها إلى لبنان.

في منتصف العام الدراسي 2003-2004، أعاد الوالدان فيرينا وشقيقتها الطفلة إلى لبنان، فمكثتا في كنف جديهما، حتى عودة والديها بعد سنة من ألمانيا، فأقفل والدها مطعمه وصفى أعماله هناك، وأنشأ مطعماً في بيت مري. لكنه في خضم انتفاضة 17 تشرين 2019، والانهيار المالي والاقتصادي، أقفله وعاد ليبدأ عمله من جديد في ألمانيا.

غياب الانتماء العصبي
في لبنان، بعد عودتها من ألمانيا، شغُفَتْ فيرينا باللغة العربية وبالكلام بها. وتعيد شغفها هذا إلى جدّها، مدرّس اللغة العربية في رميش. وقد تكون سنواتها الألمانية الأربع أسست لشغفها بالقراءة الذي تابعته بالعربية وبسواها من اللغات في لبنان، إلى جانب متابعتها الأخبار السياسية اللبنانية من المحطات التلفزيونية. ثم راحت تدوّن بالعربية مشاعر وخواطر إنسانية، تقول إنها متمردة وثائرة، ومتأثرة بكتابات جبران خليل جبران التي قرأتها، وخصَّت منها بالذكر كتابه "النبي". وظلت فيرينا على هذه الحال من الشغف بالقراءة والمطالعة وكتابة الخواطر والمشاعر الإنسانية المتمردة، حتى أنهت مرحلة تعليمها الثانوي. ولما بدأت دراستها الجامعية في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف ببيروت سنة 2014، كان شغفها بالقراءة والكتابة وانشغالها بأوضاع لبنان السياسية، من عوامل خيارها دراسة العلوم السياسية، وميلها إلى النشاط السياسي على مسرح الحياة الطلابية في الجامعة.

وهذا ما حملها أيضاً على العمل في موقع "النهار" الإلكتروني، بقسم الأخبار السياسية اللبنانية والعربية، "إلى جانب دراستي الجامعية وعلى حسابها"، قالت فيرينا. وفي سنتها الجامعية الأولى انخرطت ناشطة في حراك "طلعت ريحتكم" الاحتجاجي، ضد تراكم النفايات في شوارع كثرة من المدن والمناطق اللبنانية سنة 2015، وضد فساد رموز السلطة السياسية الحاكمة في لبنان.

ونفرت فيرينا، منذ سنتها الجامعية الأولى، من تمحور النشاط السياسي الطلابي في اليسوعية بين معسكري 8 و14 آذار، ومن الشحن والتوتر والتعبئة التي رأت أنها غرائزية وطائفية في ولاءاتها للجماعات الأهلية وزعمائها وقادتها السياسيين في لبنان. وهي ذكرت في هذا السياق أن صور وأطياف كل من سمير قصير وجبران تويني وكلماتهما، كانت من مثالاتها المؤثرة في نشاطها وخياراتها السياسية. لكن نفورها من ذاك التمحور العصبوي المشحون ومن الولاءات الغرائزية المحمومة للأحزاب وزعمائها في النشاط السياسي الطلابي الجامعي، حملها على التفكير في البحث عن بديل مستقل عن تلك الأحزاب والولاءات. وعلمت أن طلاباً كانوا في السنة الرابعة بكلية الحقوق وتخرجوا، بعدما حاولوا الانعتاق من ربقة الاصطفافات الحزبية وعصبياتها، فأنشأوا تجمعاً أو تياراً طلابياً صغيراً، راح ينادي بوقف كل نشاط وكلام حزبيين سياسيين داخل الحرم الجامعي، واقترحوا على الحزبيين ممارسة نشاطهم الحزبي خارج الجامعة، ليقتصر النشاط الطلابي فيها على عمل ومطالب طلابية وأكاديمية غير سياسية.

لكن فيرينا كانت ترغب وتريد للخروج على الاصطفافات الحزبية العصبوية، أن يكون سياسياً وينشئ نشاطاً سياسياً له مساحته وحضوره المستقل على مسرح الحياة الطلابية، ويتحرر من العصبويات المحازبة وتعبئتها الغرائزية الطائفية المشحونة والمتوترة.

وحين سألنا فيرينا عن بواعث نفورها من الانتماءات الحزبية العصبوية تلك، وعن بواعث رغبتها وإرادتها في إحياء نشاط سياسي مستقل ومتحرر منها، حاولنا أن نوجه سؤالنا في اتجاهين: سنوات طفولتها الألمانية الأربع التي قد تكون جنّبت تربتيها وحساسيتها ووعيها الطفلي، اختبارات التربية الأهلية أو الجمعية بنعراتها وعصبياتها واصطفافاتها السائدة في المجتمعات اللبنانية المحلية. أما الاتجاه الثاني لسؤالنا فكان يستقصي ميول أهلها، انتماءهم وخيارهم السياسي في لبنان.

لم تستوقف فيرينا الوجهة الألمانية من السؤال. وعن أهلها، أي والدها ووالدتها، قالت إنهما ينتميان اجتماعياً إلى البيئة المسيحية وفئاتها المتوسطة، ولا يواليان حزباً سياسياً في هذه البيئة. بل هما على خلافها لا يميلان إلى العمل أو النشاط السياسي وينفران منه، ويائسان من احتمال التغيير السياسي في لبنان، وينصرفان إلى حياتهما وعملهما، ويدعوانها إلى عدم الخوض في نشاط سياسي، والانصراف عنه والاهتمام بالتحصيل الدراسي وسواه من الهوايات والنشاطات. حتى أن والدها كان يقول ممازحاً إن غرام فيرينا بلبنان كان السبب في تركه عمله بألمانيا، ثم إعادته إليها بعد 17 تشرين 2019. وهو أصلاً كان أمضى شبابه يعمل في ألمانيا طوال سني الحروب الأهلية في لبنان.

أما أنا المستمع إلى فيرينا وأسلوب كلامها وروايتها هذه المقتطفات من سيرتها، فتهيأ لي أن لبنان الذي بكت بكاء مريراً للعودة إليه من ألمانيا في الثامنة من عمرها، قد يكون لبنان جدّها مدرّس اللغة العربية في رميش. وقد يكون لبنان الذي عادت إليه هو لبنان صور وكلمات جبران خليل جبران المهجرية الضبابية، في بعدها الإنساني الرومنطيقي. ولربما تخالط تلك الصور والكلمات الجبرانية أطياف تربية إنسانية فردية محدثة تلقفتها فيرينا من تربيتها المدرسية الابتدائية في ألمانيا.

في وصف حالتنا
لكن فيرينا تجيد وصف نفورها من الأجواء الحزبية العصبوية وولاءاتها المشحونة المغلقة التي عايشتها في الجامعة اليسوعية وتمردت عليها طوال سنوات خمس (2014-2019). وهي أجواء لم تكن تخلو من عنف كلامي وصدامات بين طلاب تلك العصبيات الحزبية، وتستدعي أحياناً تدخل القوى الأمنية والجيش لوقف الصدامات. ولما انتبه محازبو القوات اللبنانية والمحازبون العونيون إلى أن فيرينا تميل إلى النشاط السياسي ولديها وعي سياسي، حاول كل من الطرفين استمالتها إلى صفه، ووعدها بترشيحها إلى الهيئة الطلابية في كلية الحقوق. وهذا دأب المحازبين المعتاد والمدرَّب على استمالة الطلاب والطالبات الجدد المسيحيين والذين يجدون لديهم ميلاً إلى النشاط السياسي. وكان من البديهي والطبيعي أن ترفض فيرينا عروضهما وتنفر منها منذ سنتها الدراسية الأولى.

وهي إذ تصف الدعاوى والأنشطة الحزبية كلها، تصفها بأنها غرائزية وطائفية ومقيمة على ولاء عصبي لجماعة وزعيم. وهذا هو برنامجها الوحيد. فمحازبو القوات اللبنانية مثلاً، قالوا لها: "لازم تكوني معنا، لأننا أساس لبنان، وأصل لبنان، ونحن من يدافع عن لبنان. وإذا ما منجتمع ونتوحد، الشيعة رح يعملو جامع في الجامعة اليسوعية". وفي أوقات التعبئة والانتخابات الطلابية ومجابهاتها، كان القواتيون والكتائبيون يصطفون في الحرم الجامعي ويهتفون بعصبية متوترة: "بشير حي فينا، بشير حي فينا"، ثم يقولون: "هذه جامعة بشير (الجميل) ويريدون احتلالها!". أما الشيعة من محازبي أمل وحزب الله، فكانوا بدورهم يصطفون هاتفين: "شيعة، شيعة، شيعة"، فيما يصطف العونيون مرددين: "الله ولبنان وعون وبس". وهناك المردة أيضاً، مردة سليمان فرنجية الموالين لزعامته الزغرتاوية بلا هتاف محدد يميزهم.

كلٌ من هؤلاء المحازبين يقيم دعوته ونشاطه على الخوف والنفور من الآخرين، ويريد أن يُلحِق الجامعة وطلابها وهيئتها الطلابية بعصبيته الحزبية. فشيعة 8 آذار يقولون إن معسكر 14 آذار يريد إشعارنا بأننا "غرباء ومستضعفون ودخلاء على الجامعة وعلى لبنان. لا، هذا البلد لنا وليس لهم. فنحن حررناه من الصهاينة. وسوف  نريهم من نحن. وهذه الجامعة لنا أيضاً". ثم سرعان ما تعلو صيحاتهم الموتورة: "شيعة، شيعة، شيعة". ولا بد من أن يتجمع سريعاً المحازبون القواتيون والكتائبيون، ويطلقون هتافاتهم البشيرية، فيجابههم العونيون بذلك الهتاف الذي يضع الله ولبنان وميشال عون وحده في مرتبة واحدة.
(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها