السبت 2020/03/07

آخر تحديث: 00:19 (بيروت)

بكوات الجبل وقتيل سوق بيروت العمومي سنة 1912

السبت 2020/03/07
بكوات الجبل وقتيل سوق بيروت العمومي سنة 1912
خيالة وعسكر في الزمن العثماني
increase حجم الخط decrease
عندما كان خليل خالد الفغالي فتىً صغيراً في المريجة (ولد فيها سنة 1934)، كان شغوفاً بالاستماع إلى مرويات المسنين في مجالسهم في قريته الزراعية الساحلية، ومنهم جار أهله قيصر أسعد موسى الحاج عساف (أبو أسعد) الذي روى في العام 1969، حكاية تعود حوادثها إلى العام 1912.

خمّارات المريجة والحارة
مساء نهار من تلك السنة (1912) قصدَ أبو أسعد - حسب روايته إلى الفغالي - خمارة داوود عوكر بين كروم الزيتون والبساتين في مزرعة الليلكي، الخالية بعدُ من العمران، والقريبة من المريجة، فشربا كأسين من العرق.

راوٍ آخر هو ميشال الأبيض (ولد سنة 1930 في حارة حريك) كان يتردد إلى خمارات في الحارة في أواسط أربعينات القرن العشرين، ووصف تلك الخمارات على النحو التالي: غرفة أمامها مصطبة، يقصدها "الشوفيرية" (سائقو سيارات وبوسطات نقل عمومي وشاحنات)، فيجلسون مع غيرهم من زبائنها على كراسٍ واطئة صغيرة من خشب وقش، ويقدِّمُ لهم صاحبُها كؤوسًا من العرق، يتراوح ثمن الكأس ما بين 5 و10 قروش. ويذكر الأبيض خمارتين في حارة حريك، كانتا خارج دائرة السكن القديم في الحارة: واحدة منهما في الرويس، لصاحبها حنا بطرس دكاش الذي كان يصنع العرق في خمارته، ولقِّب عرقه، لقوته، "عرق هاغانا" (تيمنا بالعصابات اليهودية المسلحة المعروفة بهذا الإسم، آنذاك، في فلسطين).

وكانت الخمارة هذه تضم دكانًا صغيرًا في ركنها، وفي ركنها الآخر طاولة للمقامرة. وكانت كثرة من زبائنها وزبائن الخمارة الأخرى في بئر العبد، لصاحبها يوسف غنيمي، من شيعة برج البراجنة الذين لم يكن في ضيعتهم خمارة قط ويمتنعون، بل يُمنع عنهم الخمر في ديارهم، فيقصدون خمارات جيرانهم من مسيحيي الحارة والمريجة، فيكثرون من شرب العرق، حتى السُّكر، فيضطر جلاَّسُهم المسيحيون في الأمسيات المتأخرة، إلى مساعدتهم في الوصول إلى بيوتهم. لكن أصحاب الخمارات أخذوا يمتنعون عن تلبية طلبات زبائنهم هؤلاء، تلافيًا لبلوغهم السكر الذي يلحّون بعده، على غير هدىً، في طلب كؤوس إضافية، غالبًا ما لا يستطيعون تسديد ثمنها، فتحصل مناكفات وأحيانًا شجارات بينهم وبين أصحاب الخمارات.

الغريب ضحية الأهل
الراوي الأول أبو أسعد في رواية الفغالي، بعد تناوله مع رفيقه سمعان بو نكد كأسين من العرق في خمارة الليليكي في ذلك المساء من العام 1912، خرج من الخمارة "بحجة نفسه"، أي ليقضي حاجته. كان يرتدي لباسًا عربيًا (شروالًا وغمبازًا). وحين التفتَ نحو الطريق، أبصر في وسطها سمعانًا يعارك رجلًا، فسارع في "تحصيل" (رفع) شرواله، ثم دكّه بالشملة (حزَمَهُ على وسطه بزنار من الصوف غالبًا)، وركض لنجدة رفيقه، حاملًا في يده عصاه الخيزرانية، فانهال ضاربًا بها الرجلَ المتعارك مع سمعان، فجرحه في وجهه، قبل هرب الرجل مدمَّى الوجه.

وتابع أبو أسعد روايته لجلاَّسه المستمعين: بعد وقت قليل علمنا أن الرجل الغريب من آل شيبان، وقادم من زحلة، وترك في الطريق سلة عنب وصندوق تفاح، هاربًا إلى بيت أنسبائه آل الطويل في المريجة. وكان سمعان بونكد قد اعترض سبيل الرجل الغريب لدى مروره أمام الخمارة، بحجة أنه لم يلقِ تحية المساء، ربما طمعًا بسلبه ما يحمله، ما دام عابرًا غريبًا لن يهّب لنجدته أحد. لكن آل الطويل، وهم أصحاب حظوة وعزوة في المريجة، علموا من صاحب الخمارة بما حدث، ومن اعتدى على نسيبهم، فقدّموا شكوى بالفاعلين للضابطية التابعة لمديرها الأمير حارث شهاب في ديوان متصرفية جبل لبنان في سرايا بعبدا. وسرعان ما قبضت شرذمة من عسكر الضابطية على المعتديين، فحُكم عليهما بالسجن لمدة سنة، وفقًا لأحكام القانون العثماني المتعلقة بما يسمى جريمة ضرب وتشليح.

الطيّاح الهائمون
أمضى المتهمان محكوميتهما، وبعد خروجهما من السجن، هاجر سمعان بونكد إلى أميركا. أما قيصر أسعد موسى الحاج عساف (أبو أسعد) فحمله غلُّ السجن على تصريف غضبه وشعوره بالغبن الممزوج باعتداده بنفسه وفتوته، بالمشاكسة والميل إلى "القبضنة". كأنه في هذا يؤكد فكرة رائجة عن أن السجن مدرسة لتربية الأحقاد على النفس والآخرين، المؤدية إلى إنجاب جانحين، ومنهم في ذلك الزمن الطيّاح الهائمين، محترفي دهم عابري الطرق المقفرة وسلبهم.


وهؤلاء تكثر أخبارهم في الأدب الشعبي اللبناني، ويعود تكاثرهم إلى الحقبة الأخيرة من عهد السلطنة العثمانية، لاسيما في سنوات الحرب العالمية الأولى التي حملت السلطنة على فرض التجنيد الإجباري (سفر برلك) والأحكام العرفيّة أو حال الطوارئ، فشدّدت حملات الدهم والمطاردة لملاحقة المتخلفين عن التجنيد، والفارين منه، لاعتقالهم وسوقهم إلى جبهات الحرب.

ومن مرويات منصور الرحباني أن والده حنا عاصي، بعد عودته من مصر إلى موطنه، فرّ من إنطلياس، هاربًا من حملات التجنيد والدهم، وصار من الطيّاح السلّابين في ظهر البيدر. لكن ما أن انتهى عهد السلطنة العثمانية وانتهت أحكامها العرفية، حتى أقام مقهى قرب نبع فوار انطلياس، فأخذ يتردد إلى مقهاه هذا صحبه من سمّيعة الطرب، قدامى الطيّاح المعتدّين بالرجولة وقيمها الذكورية.
وفي جلساتهم في "مقهى الفوار" كان الطرب والعزف على البزق والعود حاضرين، إلى تراويهم حكايات عنترة والزير سالم وأبو زيد الهلالي. والمقهى وساحة الضيعة وشخصيات تلك الجلسات لها حضورها في مسرح الأخوين رحباني، أمثال "هولو" و"راجح" والمختار وسواهم، فيما صوّر فيلم "سفر برلك" الرحباني تصويرًا فولكلوريا بلديا ما يُفترض أنه حال اللبنانيين مع التجنيد الإجباري العثماني.

أطياف الزمن العثماني
بعد خروجه من السجن اشترى راوي حادثة سنة 1912 (أبو أسعد) مسدسًا من تاجر سلاح مشهور يدعى عبدو الأنكيدار الذي كان محله في زاروب بوسط بيروت كان يعرف باسمه هذا. وأمام شبان المريجة ومعهم أخذ الراوي يستعرض مسدسه ويتباهى به، في لقاءاتهم في الخمارة، فأطلق مرة من على مصطبتها طلقات عدة تجريبية، وضع مضاريفها الفارغة في جيب سترته العربية الطراز (السوكا). لكن شرذمة من العساكر الخيالة راحت تبحث عن مطلق النار، فاهتدت اليه وطوّقت منزله ودهمته بعد منتصف الليل، وعثرت على المضاريف في جيبه.

كان الضابط اليوزباشي الأرثوذوكسي حليم بك شقير على رأس الخيالة الذين اقتادو أبو أسعد مكبلًا إلى سرايا الشويفات، مرورًا بصحرائها. في حضور الأمير توفيق أرسلان (والد الأمير مجيد، وزير الدفاع في حكومات لبنانية استقلالية كثيرة) المعيّن حديثًا قائمقامًا على المتن في نهايات عهد متصرف جبل لبنان الأخير، أوهانس باشا، بدأ اليوزباشي التحقيق مع المعتقل قائلًا له: هاتِ أخبرنا - أنت صاحب السوابق في السطو والسلب وعثرنا في بيتك على مسدسك ومضاريف رصاصاته الفارغة - كيف هاجمت مع رجالك موكب الأمير قبلان أبي اللمع وسلبته ومرافقيه ساعات جيوبهم، وسلبت نساء الموكب حليِّهنَّ الذهبية؟ وذلك قرب مجرى النهر اليابس (مثلث خلدة اليوم)، فيما كان موكب عربات خيل الأمير قبلان، القائمقام الأسبق، في طريقه إلى قصر الأمير توفيق إرسلان في خلدة، لتهنئته بتنصيبه قائمقامًا جديدًا. قال المتهم إن لا علم له بالحادثة.

وفي النهار التالي أحضر الجند الخيّالة زوجته وقريبتها المسنّة المقعدة البسيطة، واسمها فنّي حنين التي وعدها المستنطق اسكندر خالد (من بحمدون) بأنه سيخلي سبيل قريبها في حال إقرارها بفعلته، فأقرت بها. لكنها لاحقًا، بعد ظهور الفاعل الحقيقي والقبض عليه وتبرئة قريبها، سُئلت عن سبب فعلتها، فقالت: هيك (هكذا) قلّي (قال لي) المستنطق، أنا شو خصني؟ (ما علاقتي بالأمر؟).

ضحايا ضغائن البكوات
وشاع خبر حادثة السّلب التي اتُهم بها أبو أسعد، فانتشر بين الناس في قرى الساحل، قبل أن تؤدي مصادفةٌ حصلت بعد أيام، إلى اكتشاف فاعليها. كان ابن كفرشيما، سعيد وهبي (والد الفنان فيلمون وهبي الحاضر دوما في المسرح الرحباني)، بائع الكشّة الجوال خلف كديش (حصان هرم) يحمّل عليه أقمشة للخياطة ومستلزماتها لبيعها في ساحات قرى الساحل، قد أوقف الكديش في ساحة عرمون، فتحلّقت حوله بعض نسائها بينهن زوجة المختار، عندما أبصر فجأة رجالًا ثلاثة أو أربعة مسلحين ملثمين يركضون وسط الساحة ويختفون سريعًا في ناحية منها.

ثار لغط بين البائع والنسوة عن هوية المسلحين، فقالت زوجة المختار: ناس يأكلون الدجاج، وناس يقعون في السياج. هني (هم، أي المسلحين) عملوها (قاموا بها)، وغيرهم المعتر (العاثر أبو أسعد) صار بالحبس. فاستنتج البائع الجوال أنها تقصد مرتكبي حادثة سلب موكب الأمير قبلان أبي اللمع، والسجين البريء المتهم بها زورًا وبهتانًا. لذا سارع البائع الجوال إلى إبلاغ الضابطية في سرايا الشويفات، بما رأى وسمع في ساحة عرمون، فدهمت القرية شرذمة من الخيالة، وعثرت على المسلحين مختبئين في أحد بيوتها، وقبضت عليهم، فانكشفت دوافع الحادثة.

كان الفاعلون من أتباع نسيب بك جنبلاط، أحد أقطاب الزعامة أو الغرضية الجنبلاطية المناوئة للزعامة أو الغرضية الإرسلانية. وكان هدف البيك الجنبلاطي من دفعه رجاله إلى الهجوم على موكب الأمير اللمعي، الانتقام من خصمه الإرسلاني الأمير توفيق، القائمقام الجديد، الذي حاز منصبًا كان البيك الجنبلاطي يطمح إلى حيازته، وأحبط المتصرف طموحه هذا. مدفوعًا بإحباطه أراد نسيب بك جنبلاط بفعلته أن يبرهن للمتصرف أنه أخطأ في اختياره، وأن خصمه القائمقام الجديد عاجز عن حفظ الأمن في القائمقامية.

أُطلق سراح أبو أسعد. أما رجال نسيب بك جنبلاط فقد قُبض عليهم، لكن أحدهم تمكن من الفرار إلى مدينة بيروت، وهي آنذاك عاصمة ولاية عثمانية خارج صلاحيات سلطات المتصرفية، فكُلّف شاويش من ضابطية بعبدا باقتفاء أثر الرجل الهارب. تمكن الشاويش (وهو من آل الشوفياتي في حارة حريك) من الاهتداء إلى الرجل، فقتله في سوق بيروت العمومي للبغاء. وقيل إن الرجال الآخرين المشاركين في الهجوم على موكب الأمير قبلان أبي اللمع، أُعدموا تنفيذًا لحكم قضائي صادقت عليه السلطات العثمانية في اسطمبول.

وحين سئل الراوي أبو أسعد إن كان صدر حكم ما على نسيب بك جنبلاط بصفته محرضًا على الهجوم، أجاب: من يستطيع جلب البيك إلى محكمة! عملٌ من هذا النوع يثير العصبية الجنبلاطية الدرزية، وقد يؤدي إلى فتنة تحرق الجبل. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها