واليوم، تأتي المناسبة العالمية "لمساندة ضحايا التعذيب"، من دون أن تُنسى ذكرى الدماء التي غرق بها العراق ومصر ودول المغرب العربي، ومن دون أن تُمحى آثار البراميل المتفجرة في سوريا وأقبية التعذيب اللامتناهية في كل أنحائها، ومن دون أن تنتهِ مآسي القتل وأعمال العنف في اليمن والسودان وغيرهما من الدول العربية التي تعاني شعوبها آلام وعذابات اضهادها جسديًا ومعنويًا. واليوم أيضًا، تأتي هذه المناسبة لتكون شاهدة على "الوسيلة الفضلى" للأنظمة العربية في تعاملها مع معارضيها قمعاً وتصفية أجسادهم بأشنع الوسائل، في المشرق والمغرب ودول الخليج أيضًا. وإذا كان ثمّة من أيقونةٍ لهذا اليوم من العام 2019، لا بدّ أن تكون قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي، الذي ارتُكبت بحقّه واحدة من أفظع الجرائم، كعقاب غادر على رأيه وكلمته، فيما سجون بلاده والسجون العربية مليئة بآلاف "خاشقجي"، الذين يُذبحون ويُقطّعون ويُحرقون من دون أن يدري بهم أحد.
الكذب والإنكار
عندما حدّدت الأمم المتحدة تاريخ 26 حزيران لمساندة ضحايا التعذيب، كان يتزامن هذا مع تاريخ نفاذ اتفاقية الأمم المتحدة لـ"مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة"، المعلنة في العام 1987، و"التصدّي لأشكال التعذيب في ظلّ أي ظرفٍ أو وقتٍ"، بموجب القانون الدولي. وحينها، صدّق عليها نحو 159 بلدًا أجنبيًا وعربيًا، وكانت المادة 14 من الاتفاقية تنصّ على وجوب أن تضمن الدول "حصول الضحايا على الإنصاف"، وأن يتضمن هذا وسائل "إعادة تأهيل جميع الضحايا على أكمل وجه ممكن، سواء كانوا كبارًا أم أطفالًا".
لكن هذا القانون الدولي، لم يشكل رادعًا بالحدّ الأدنى للدول العربية، فاستمرت المنظمات الدولية والجهات الحقوقية تُصدر تقاريرها المنددة بأساليب التعذيب خارج السجون العربية وداخلها، وتحكي عن أشكال التعذيب الذي يتجاوز الضرب المبرح إلى الصعق الكهربائي والحرق وتعليق أجساد المعتقلين من سواعدهم أو أقدامهم، والإغراق في الماء، وتعريضهم لهجمات الكلاب البوليسية، فيما السلطات العربية لا تعيّر هذه التقارير اهتمامًا، لدرجة التجرؤ على نفي صحتها وإدعائها "الوقح" بإحترام حقوق الإنسان وصون الحريات، والتمويه بعقد مؤتمراتٍ "منافقة" للمحاضرة بـ"نزاهتها" في احترام هذه الحقوق والحريات!
لبنان أيضًا
أمّا لبنان، فهو لا ينفصل عن محيطه العربي، وإنّما يستنسخ تجارب أنظمته ويُقلّدها متأثرًا برواسب "البعث" الذي أرسى ثقافته القمعية أثناء رضوخه لاحتلال الجيش السوري، على مدار عقودٍ طويلة. وإذا كان التعذيب في السجون اللبنانية وداخل غرف التحقيق لدى الأجهزة الأمنية، ليس ظاهرةً طارئة وجديدة، فلا يزال الفيديو الذي سُرّب من سجن رومية في العام 2015، وصمة عارٍ كبرى لا تُنسى، وكان أقرب لفضيحة تكشف "حقيقة" السجون اللبنانية، التي قد يتعرض فيها المعتقلون "العراة" للضرب والإهانات والإذلال على أيادي عناصر أمنية. حتّى كانت قضيّة الممثل المسرحي زياد عيتاني، كمثال صارخٌ عن معنى الفساد الذي يضرب بعض عناصر أجهزة الدولة، واستعدادها للتلفيق والتوريط والتزوير وانتزاع الإعترافات تحت سطوة التعذيب أثناء التحقيقات. إلّا أنّ التعذيب في السجون اللبنانية، وتفشي أدوات القمع والعنف في "بلد الحريات"، لا يقتصر على اللبنانيين أنفسهم، وإنّما يشمل الممارسات بحقّ النازحين السوريين واللاجئين الفلسطنيين والعاملات الأجنبيات، وهو ما أفردت له المنطمات الدولية والحقوقية تقارير طويلة، رصدت فيها حالات تعذيبهم داخل السجون وخارجها.
في المحاكم العسكرية
الأزمة "الحقوقية" في لبنان، تتأصل جذورها في نظام محاكماته، إذ لا يزال بلدًا يُحاكم "المدنيين" في المحاكم العسكرية. هذ الواقع غير المبرر، يعيدنا إلى تقريرٍ مفصلٍ أعدته منظمة "هيومن رايتس ووتش" الدولية في العام 2017 بعنوان "هذا ليس مكاننا: محاكمات المدنيين أمام المحاكم العسكرية في لبنان"، خلصت فيه أنّ المحاكم العسكرية اللبنانية لا تحترم الحق في الإجراءات الواجبة، و"أن بنيتها تقوّض الحق في المحاكمة العادلة، بما في ذلك الحق بالمثول أمام محكمة مختصة ومستقلة ومحايدة، والحق في محاكمة علنية". وهذا الأمر، لا ينفصل عن حقيقةٍ مفادها أنّ العديد من قضاة المحاكم العسكرية في لبنان، "هم ضباط في الجيش يعينهم وزير الدفاع، وغير ملزمين بالحصول على شهادة في القانون أو تدريب قانوني"، واصفةً المحاكم العسكرية اللبنانية بأنّها "لا تحترم حقّ الموقوف بمحاكمة العادلة وتنتهك القانون الدولي"، وأنّها تلجأ لاستخدام محاكمات منتزعة تحت التعذيب وبمختلف أدوات الترهيب.
لكن، يبقى الأخطر من التعذيب داخل السجون اللبنانية، هو ما يحدث اليوم، من تفشي خطاب الكراهية والعنف الطائفي والعنصري، وهو ما أسس لتعنيف يمارسه اللبنانيون بحقّ بعضهم البعض وتجاه النازحين واللاجئين وكل ما هو "آخر"، حتّى بات ثقافةً للتباهي والمفاخرة يقابله شعور "الآخر الأضعف" بالمظلومية. ما يجعل منّا عمليًا، نسخةً مشوهةً عن الأنظمة العربية. فلم تعد الممارسة العنفية لدينا فردية وإنّما تجسيدًا لجماعاتٍ بأكملها، وهو ما يجعل الاحتفال بمناسبة مساندة ضحايا التعذيب في العالم، ضربًا من ضروب النفاق اللبناني.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها