عام الفضائح المدوية يؤسس لانتفاضة 17 تشرين (2)

انتهى عام 2019 بانتفاضة لبنانية عفوية، شبابية وشعبية، على المنظومة السياسية الأوليغارشية، المتجذرة في لبنان منذ اتفاق الطائف وتوقف الحروب الأهلية - الإقليمية الملبننة عام 1990. وبطبيعة الحال، جاءت الانتفاضة بعد سلسلة من الأحداث والفضائح والعثرات الكبيرة.

مقدمات الانتفاضة: فضائح بالجملة
سُمّيت الانتفاضة في بدايتها "انتفاضة الواتس آب" اللبنانية. وقد سبقت انطلاق شرارتها وتوسعها، وتجاوزها مسألة الضرائب إلى استهدافها منظومة السلطة السياسية والمالية الأوليغارشية المتحكمة بمفاصل مؤسسات الحكم وأجهزة الدولة، فسادها وتقاسمها المناصب والريوع على أنواعها - سبقت تلك الشرارة حوادث فضائحية كثيرة ومشهودة، مهدت للانتفاضة.  

أحراج منطقة المشرف بعد موجة الحرائق (علي علّوش)

ومن تلك الحوادث - الفضائح:
1- حرائق مهولة وعنصرية
موجة الحرائق الواسعة التي ضربت في 13 تشرين الأول 2019 مناطق لبنانية كثيرة، وخصوصاً منطقة أحراج المشرف في ساحل الشوف. وامتدت الحرائق إلى مناطق سكنية، واستمرت ليومين. فطالت المناطق اللبنانية في معظمها، من الجنوب إلى الشمال، وتجاوز عددها 300 حريقاً.

وكان استشراء الإهمال والفساد وتقاذف التهم والمسؤولية بين أركان الحكم ومناصبه، هو الرد الرسمي الناجع والمعتاد على النيران المندلعة في بقايا "الأخضر الحلو" في لبنان الأغاني. واعتبر النائب العوني ماريو عون أن الطبيعة طائفية في عدم توزعها الحرائق بالتساوي الميثاقي على مناطق الطوائف والجماعات اللبنانية. فهي، بحسبه، طالت مناطق مسيحية دون المناطق المسلمة!

وشملت قضايا الفساد المتعلقة بالحرائق، عدم استخدام الطائرة المتروكة بلا صيانة منذ سنوات. وهذا ما استدعى طلب طوافات من قبرص واليونان، بعد يومي الحرائق. وفي الأثناء ظهرت حيوية المجتمع المدني والأهلي اللبناني في إقدامه على إخمادها. فسقط شهيد من جهاز الدفاع المدني المحروم من التجهيزات ومن تقاضيه الرواتب. وتُركت فرقه يومان من دون طعام، فيما فرّ بعض السكان من مناطق الحرائق.

انتحر جورج زريق بعد عجزه عن دفع أقساط المدرسة (المدن)


2- نزوح إلى المدارس الرسمية
وكان العام الدراسي  2019 - 2020 قد بدأ  في منصف شهر أيلول بانتقال 18500  طالباً من المدارس الخاصة إلى التعليم الرسمي.

فالأزمة الاقتصادية، وارتفاع الأقساط في المدارس الخاصة، وغلاء المعيشة، وبدء بعض المؤسسات بطرد موظفيها، حملت عائلات كثيرة من الفئات الأدنى من الطبقة الوسطى على ترك المدارس الخاصة، إلى الرسمية. وهذه أصلاً تعاني من ازدحام وفيض تلامذتها، حسب اكتظاظ المناطق السكنية، وتفاوت الإقبال على التعليم الرسمي.

3- إضراب الجامعة اللبنانية
وفي شهر نيسان بدأ أساتذة الجامعة اللبنانية إضراباً مفتوحاً استمر لنحو شهرين، مطالبين بحقوقهم المزمنة. وترافق الحديث عن الموازنة العامة مع لجوء الحكومة إلى إجراءات تقشفية كثيرة مست رواتب الأساتذة الجامعيين، وصندوق تعاضدهم الصحي، وميزانية الجامعة، وعدم تفريغ المتعاقدين. وترافق إضراب الأساتذة مع نزول الطلاب إلى الشوارع مطالبين بتحسين شروط الحياة والتدريس في الجامعة اللبنانية. فنظموا مسيرات احتجاج يومية في ساحة رياض الصلح وأمام وزارة التربية وفي حرم الجامعة. وانتهى الإضراب بوعود قطعها لهم وزير التربية أكرم شهيب.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن راتب أستاذ الجامعة اللبنانية المتفرغ، سرعان ما يتجاوز 3 آلاف دولار في الشهر، بعد سنوات قليلة من بدئه التدريس. وهذا على الرغم من تدني مستويات التعليم في هذه الجامعة.

إلغاء حفل مشروع ليلى بعد حملة دينية (Getty)


4- محاكم تفتيش فنية في جبيل
في أوائل تموز ألغت لجنة مهرجانات جبيل حفل "مشروع ليلى" الموسيقي. وذلك بعدما تصاعدت تهم رجعية، متخلفة ومتزمتة، تتقنع بالدين والمقدسات الدينية، وعملت على شيطنة الفرقة الفنية وتكفيرها وزندقتها. فاللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام الكاثوليكية برئاسة المطران بولس مطر، أعلنت بحضور مطران جبيل، والأب أبو كسم رفضها المسّ بشعائر الكنيسة وإيمان أبنائها، مطالبة المسؤولين والأجهزة المختصة، باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع المسّ بالأديان. ورغم تحركات بعض الناشطين المدنيين ضد ما سموه "محاكم التفتيش"، بعدما فرضت الكنسية الحرم الكنسي على حفلات الفرقة الفنية، مُنِعت من المشاركة في مهرجان جبيل التي رضخت لجنتها المنظمة لخطاب الشارع الذي تصدره التيار العوني، إذ هدد بعض وجوهه بحرق المهرجان وتفجيره، في حال مشاركة فرقة "مشروع ليلى" فيه.

تعددت قضايا التمييز والظلم بحق النساء (خليل حسن)


5- حادثة نواف الموسوي
في أوسط تموز طرحت حادثة نائب حزب الله نواف الموسوي وابنته (غدير) المطلقة، مسألة مهمة تتعلق بالمحاكم الشرعية الجعفرية، والمحاكم الدينية عامةً في لبنان. وقد تشترك هذه المسألة مع مسألة منع حفلات "مشروع ليلى" في تزمتهما الديني.

فقد تعرضت ابنة النائب الموسوي وشقيقتها وطفليها إلى مطاردة سيارة مرعبة من طليقها العضو المتمكن في حزب الله، والذي حرمها - تنفيذاً لأحكام الشرع الجعفري الذكوري، المتزمت والمحتقر للنساء - من حضانة طفليها. ونجدةً لابنته التي لاذت بمخفر الدامور هاربة من طليقها، هاجم الموسوي المخفر مع مجموعة مسلحة، وأطلق النار من مسدسه في المخفر.

وأثارت الحادثة الرأي العام حول مسألة حرية النساء وحقوقهن في حضانة أطفالهن الذين يصادرهم رجالهن في أحوال الطلاق. وهذا تنفيذاً لأحكام الشرع الديني الجائر على النساء. وكشفت الحادثة عن معاناة نساء كثيرات (شيعيات خصوصاً) من حرمانهن من رعاية أطفالهن، بل من رؤيتهم. وكشفت أيضاً عن تخلف القوانين اللبنانية قياساً إلى ما تتمتع به المرأة من حضور اجتماعي لافت في دورة الحياة اليومية والعمل. 

ونواف الموسوي - الذي أخرجته مكابدتُه مأساةَ ابنته الدنيوية، خروجاً فردياً، وفي لحظة تخلٍ عابرة عن نواميس قلعة حزبه المتشددة، ليقوم بحملته الانتقامية الخاطفة على طليقها في مخفر الدامور - سرعان ما استقال أو أُقيل من منصبه النيابي. وهو بهذا المعني شخصية درامية للحظات عابرة، انتهت بعودته صاغراً تائباً إلى القلعة السرية المقدسة.

فاجعة موت الناشطة نادين جوني (ألبوم شخصي)


6- نادين جوني
وعلى الطريق نفسه الذي طُوردت عليه ابنة النائب الموسوي، وقبل أيام عشرة من انتفاضة 17 تشرين الأول، قتلت بحادث سير الناشطة والمناضلة الحقوقية الشابة نادين جوني التي حرمها طليقها من حضانة طفلها ورؤيته. وجاء خبر موتها صادمًا. وكحال عشرات اللبنانيين الذين يموتون يوميًا على الطرق، قضت الناشطة الحقوقية على أوتوستراد الدامور. وكانت الفاجعة مضاعفة: الموت المجاني على الطرق، وحرمان أمّ من طفلها بسلطة الدّين في المحاكم الشرعية.

7- العنصرية حلٌّ عوني للبطالة
في مطلع شهر حزيران استغل وزير الاقتصاد العوني منصور بطيش - بإيحاء أو تنسيق مع رئيسه جبران باسيل - تفشي الأزمة الاقتصادية، وتزايد معدلات البطالة، مقترحاً الحل العوني العنصري: حملة على اللاجئين السوريين في لبنان. فتحركت لذلك أجهزة وزارة الاقتصاد، وشنت حملتها لإقفال المؤسسات التي يديرها سوريون وفلسطينيون، أو التي تشغّل عمالاً أجانب. ترافقت هذه الإجراءات ضد السوريين مع حملة مماثلة وتشبه "محاكم التفتيش"، كما في جبيل. وقام بالحملة الميدانية قطاع الشباب والطلاب في التيار العوني، فراحوا يداهمون المؤسسات التي تشغّل عمالاً سوريين بوصفهم طرائد للعنصرية التي تنقذ البلاد من أزماتها، حسب العبقرية العونية. وهذا نسج على منوال نازي ألماني. لكن أمية العونيين الثقافية والتاريخية، تصور لهم أن غرامهم الوطني بلبنانهم، والمقتصر على "حقوق المسيحيين السليبة"، هو وحده الخلاص من الأزمات.

8- مزايدة قواتية ضد الفلسطينيين
وبعد هذه الحملة التي واجهها ناشطون مدنيون وحقوقيون بتحركات ضد خطاب الكراهية العنصري، قام وزير العمل كميل أبو سليمان، ممثل القوات اللبنانية في الحكومة، بحملة مكافحة لليد العاملة الأجنبية غير الشرعية. وذلك في مبادرة قواتية للمزايدة على عنصرية العونيين في إثارة غرائز الشارع المسيحي ضد الفلسطينيين الذين طالتهم الحملة عمالاً وأصحاب مؤسسات في لبنان. وهذا لأن الوزارة ألزمت المؤسسات كلها بحصول العمال الأجانب على إجازات عمل، ومنهم الفلسطينيون المعفيون منها أصلاً. وتحركت المخيمات الفلسطينية ضد هذه الإجراءات. ونفذ الفلسطينيون تظاهرات واسعة أشعلوا فيها الإطارات وأقفلوا الطرق حول المخيمات أكثر من أسبوعين. وانتهت الحملة بتراجع وزارة العمل عن إجراءاتها ضد العمال الفلسطينيين.

امتدت الاحتجاجات في المخيمات الفلسطينية لأكثر من أسبوعين (المدن)


9- طلب الفرار من لبنان
لكن هذه الممارسات الشوفينية تسببت بتحرك ألوف الفلسطينيين طالبين اللجوء الجماعي خارج لبنان. فنظموا لهذا وقفات أمام سفارات أوروبية في بيروت، لتفتح أبواب هجرتهم وتنظيمها. وقد مُلئت لذلك ألوف طلبات الهجرة/اللجوء. لكن السفارات اعتبرت أنها غير معنية بطلباتهم لأن الفلسطينيين هم في عهدة منظمة الأونروا ورعايتها، وهي تابعة لمنظمات الأمم المتحدة. لذا قام بعض الفلسطينيين بالتظاهر أمام مكاتب الأونروا طالبين منها رفع وصايتها عنهم، كي تقبل السفارات الأوروبية طلبات لجوئهم إلى خارج الديار اللبنانية.

طغت الفوضى على حال المطار (علي علّوش)


10- مافيات نقل المسافرين
وفي مطلع شهر نيسان صدر قرار شاركت فيه وزارة الأشغال العامة وبعض نقابات السائقين العموميين ورئاسة مطار بيروت. وقضى القرار بمنع دخول سيارات الأجرة إلى موقف مطار رفيق الحريري، وحصر خدمة المسافرين بتاكسيات المطار التي تدريها مافيات مقربة من "حركة أمل" وبعض السياسيين.

أدى ذلك إلى تذمر واسع بين المسافرين، خصوصاً أنهم استفاقوا على القرار المفاجئ من دون علم مسبق، فأضطر كثيرون منهم إلى السير على أقدامهم، جارين حقائبهم أكثر من كيلومتر، للوصول إلى سيارات الأجرة خارج حرم المطار. وبعد اعتراض واسع من المواطنين وأصحاب السيارات العمومية، عادت الأمور إلى ما كانت عليه من قبل، وسُمح ركن سيارات الأجرة في مواقف المطار، لنقل المسافرين. 

تكشفت قضية مستشفى الفنار عن مشهد كابوسي (مصطفى جمال الدين)


11- المستشفى - السجن
وكان العام قد افتتح منتصف شباط 2019 بمشهد كابوسي مأسوي: صاحبة مستشفى الفنار للأمراض العقلية سمر اللبان، تركت المرضى بلا طعام ولا دواء، متذرعة بعدم دفع وزارة الصحة مستحقاتها للمستشفى. وقد بدت المستشفى أشبه بسجن من القرون الوسطى، بلا كهرباء ولا تدفئة، والنفايات تتكدس مهملة في جنباته. بعد الضجة الإعلامية تحركت وزارة الصحة، فأقفلت المستشفى، ونقلت المرضى إلى مصحات عقلية في مناطق لبنانية أخرى. لكن هذه القضية التي هزت شطراً واسعاً من الشعب اللبناني، انتهت بدفع صاحبة المستشفى كفالة مالية بقيمة مليون ليرة فحسب.

تحول نهر الليطاني إلى مصدر للتلوث والسرطان (Getty)


12- أوبئة مجرى الليطاني
وشهد العام، على نحو متكرر، فضائح بيئية، وخصوصاً في حوض نهر الليطاني الذي تحول نهراً للسموم والتسبب بأمراض سرطانية بنسب مرتفعة في القرى والبلدات البقاعية التي تتاخم النهر، فقامت جموع  منها بتنظيم وقفات احتجاجية. ثم اشتدت حملة مصلحة الليطاني على المؤسسات الصناعية التي تتخلص من نفاياتها الخطرة في النهر، مخالفة بذلك أبسط قواعد وقوانين السلامة البيئية. وعملت المصلحة على إقفال مؤسسات كثيرة مخالفة. لكنها كالعادة لم تصل إلي أي خاتمة فعلية مستدامة. ولم تلبث أن حصلت تدخلات سياسية، وأعيد تشغيل مؤسسات عمل بعضها على تركيب فلاتر.

لكن مجارير الصرف الصحي في كثرة من البلدات البقاعية، لا تزال مياهها المبتذلة تصب في النهر وتجعل مياهه سوداء وصولاً إلى بحيرة القرعون. وهذا على الرغم من إعلان وزارة الصحة خلو النهر من الملوثات الصناعية.

13- الاختفاء الباسيلي
وعشية انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، احتفل جبران باسيل ورهطه العوني بذكرى طرد الجنرال عون من قصر بعبدا الجمهوري في 13 تشرين الأول 1990. فجاء احتفاله المتعجرف إيذانأ أو تمهيداً لاختفائه، وتغيّبه في كواليس القصر الرئاسي، طوال أيام الانتفاضة.