الخميس 2019/12/12

آخر تحديث: 00:45 (بيروت)

الفقر القاتل.. والليلة الأخيرة لبيت كاخيا الذي صار مدفنهم..

الخميس 2019/12/12
الفقر القاتل.. والليلة الأخيرة لبيت كاخيا الذي صار مدفنهم..
معظم البيوت القديمة في ذاك الحيّ مهددة بالسقوط (نذير حلواني)
increase حجم الخط decrease

لم تقوَ مدينة الميناء الشمالية بعد، على لملمة جراحٍ تركها مقتل الشقيقين عبد الرحمن وراما كاخيا، تحت ركام منزلهما، الذي تهاوى سقفه أثناء نومهما. خفتتْ فورة الغضب وما نتج عنها فجر يوم الثلاثاء 10 كانون الأول، من إحراقٍ للإطارات وتظاهرات شعبية جابت شوارع المدينة، وأمام منزل رئيس بلدية الميناء عبدالقادر علم الدين، واقتحام مبنى البلدية. ومنذ صباح اليوم الأربعاء، بدتْ الميناء كما لو أنّ أبناءها استيقظوا على وجعهم وعلى حزن جيرانهم القانطين في فقرهم، داخل واحدٍ من أسواق الميناء القديمة. إنّها عائلة كاخيا الجريحة.

ومع تقدّم خطواتنا نحو سوق الميناء القديم، تقتحم الأنفاس رائحة الأسماك والبحر وعربات الخضار. السوق مشلولٌ. لا حركة ولا بركة فيه. عمّاله وساكنوه يتسامرون ويواسون بعضهم البعض على تلك الفاجعة التي قد تطالهم في أيّ لحظة، لا سيما أنّ معظمهم يسكن في بيوت أثرية وقديمة تتراصف فوق بعضها البعض، وهي مهددة بالانهيار.

حال يرثى لها
قبل الوصول إلى منزل كاخيا، تستوقفنا سيدةٌ  مسنة، تبكي على حزن جارتها التي فقدتْ ولديّها بهذا هذا الحادث الأليم، تؤشّر بإصبعها نحو منزلها، وتقول: "شوفو كيف الحيطان عم تشقشق من سنين، ونحنا بأيّ لحظة ممكن نموت مثل عبدالله وراما وما حدا عم يسأل فينا".

اقتربنا من منزل كاخيا الأرضي، في مبنى قديم مهجور ومهترئ، أُغلقت بوابته الحديدية منعًا لدخول أحد وهو مهدد بمزيدٍ من الانهيار، وأمامه يتزاحم الجيران وأبناء الأحياء المجاورة لتفقد الأضرار وتقديم واجب العزاء. نلتقي بالخبير المحلف المهندس مصطفى فخر الدين، وهو المكلف بالكشف عن المبنى لعدّة مرّات، قبل تقديم تقريره النهائية. ويشير فخر الدين لـ "المدن" أنّ الوقائع المتوفرة لديه حتّى الآن، تؤكد أنّ سقفًا سقط من الطابق الأول، وأحدث ثقلًا على سقف الغرفة، ثمّ تهدّم على الفور وانهال ركامه من حجارٍ ورمالٍ وأخشابٍ على الضحيتين المغدورتين، من دون أن يتبيّن أنّ ثمّة تلاعبًا بالهيكل، "لكنّ المبنى كان بحالةٍ يرثى لها ويحتاج للترميم". يأسف فخر الدين على أحوال معظم المباني الأثرية والقديمة في الميناء وطرابلس، ويقول: "منذ سنوات وأنا أراقب هذه المباني في الأحياء القديمة، وهي بمعظمها مهددة بالسقوط جراء العواصف، وكلّها لا تزال صامدةً برحمة الله فقط". يُحمّل فخرالدين وزارة الثقافة جزءًا كبيرًا من المسؤولية، لأنّها "تفرض بعض القيود بعدم الاقتراب من المباني الأثرية،  خوفًا من سرقة محتوياتها وحجارتها. وفي المقابل، لا يوجد أي متابعة لصيانة هذه الأبنية وترميمها حفاظًا عليها وعلى تراثها".

فاجعة الموت
ندخل إلى منزل كاخيا برفقة جارهم صبحي شاكر، الذي يسكن في بيتٍ محاذٍ لهم. يقول لنا: "كلّنا مفجوعون وأشعر أنني خسرتُ أبنائي، فهذه العائلة تزوجت وعاشت وأنجبت أطفالها في هذا المنزل الصغير، وقد خسروا قبل عامين أيضًا واحدًا من أبنائهم يبلغ 14 عامًا على دراجةٍ نارية قبل راما وعبد الرحمن، وكأنّ قدرهم أن يخسروا أبناءهم واحدًا تلو الآخر".

والدة هذين الشقيقين هي لبنانية، تزوجت سوريًا وأنجبت منه ستة أطفال. لا تقوى الوالدة الشابة البالغة 38 عامًا على الحديث مع أحد، وهي لم تصحُ من صدمتها بعد. كذلك الوالد، وهو يعمل في صيد السمك على شاطئ الميناء، ويعاني من أوضاعٍ اقتصادية صعبة للغاية.

أمام باحة المنزل، يجلس الأقرباء والجيران والعمّات المفجوعات. نقترب من العمّة عبيدة، وتخبرنا بصوتها المتقطّع والمبحوح عن تفاصيل الحادث. هذا البيت، هو عبارة عن ثلاث غرف، وفي كلّ غرفة تعيش عائلة من عائلات كاخيا. لا شي بقي من ملامح الغرفة التي تهدّمت فوق رأسي عبد الرحمن وراما. جبلٌ من الركام والتراب والأخشاب، فيه فجوتان حفرهما الصليب الأحمر لانتشال جثتي الضحيتين. تخبرنا العمّة أنّ في هذه الغرفة ينام عادةً خمسة أشخاص: هي وشقيقتها العمّة الثانية، مع راما وعبدالله وشقيقتهم الصغيرة. تقول: "أنا أنام بالقرب من حبيبتي راما دومًا، وفي تلك الليلة المشؤومة، دخلت مع عبدالله عند الثانية فجرًا للنوم، وكنّا نحن نسهر مع العائلة في باحة المنزل. دخلتُ إليهما، تحدثنا وضحكنا، طلبا مني أن أطفئ الضوء وأغلق الباب، وما هي إلّا دقائق حتّى سمعنا صوتًا مدويًا يصدح من الغرفة". وبعد رؤية مشهد الركام، و"بينما كنا نستغيث ونصرخ ونطلب الإسعاف، أدركنا على الفور أنّهما لن يخرجا أحياءً، وأنا لم أصدق بعد أنني خرجتُ حيّة ولم أمتّ معهما".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها