في الذكرى التاسعة عشر لاغتيال الرئيس رفيق الحريري سنة 2005، لا بد من الإقرار أن تاريخ 14 شباط، صار صفحة من أجندة الذكريات التي يُحييها اللبنانيون، وليوم واحد، عبر إغلاق المؤسسات وتعليق العمل، كما يفعلون مثلًا في "عيد الاستقلال"، تعبيرًا عن رمزية الحدث الذي كان منعطفًا في تاريخ لبنان.
هكذا، أضحى إحياء الذكرى مجرد تقليد سنوي، ليس تقليلًا من شأنها ومن فظاعة الجريمة، بل لأن اللبنانيين (باستثناء جمهور تيار المستقبل)، باتوا يحترفون الانفصال عن الماضي وأثره في الحاضر.
ومن مميزات الذكرى السنوية لاغتيال الحريري هذا العام، أنها تأتي ولأول مرة بعد إغلاق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي أسسها مجلس الأمن للتحقيق بجريمة اغتيال الحريري ورفاقه، ومحاكمة القتلة. وذلك بقرار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي أنهى أعمالها رسميًا نهاية 2023.
تلك المحكمة التي كبدت لبنان منذ إنشائها سنة 2007 ملايين الدولارات، أصدرت قرارها اليتيم في آب 2020، بإدانة سليم عياش فقط، العضو في حزب الله بجميع التهم في قضية اغتيال الحريري، مقابل تبرئة ثلاثة من المتهمين الأربعة في القضية، وهم حسن مرعي وحسين عنيسي وأسد صبرا.
تحولات بعد المحكمة
أما اليوم، وتحديدًا ما بعد 2022، وهي سنة عزوف زعيم تيار المستقبل عن الحياة السياسية، أصبح 14 شباط تاريخ الاحتفاء بالابن و"مجده الضائع" أيضًا. فمن الشعارات المطالبة بالحقيقة والعدالة للاقتصاص من قتلة الرئيس الحريري، إلى شعار "تعوا ننزل ليرجع" للمطالبة بعودة سعد الحريري إلى العمل السياسي.
في الشكل، رمى تيار المستقبل هذه الدعوة على عاتق جمهوره، وكأنها مطلب عفوي خالص صدر عنه. لا شك أن هذا الجمهور لم يتجرع بعد انفصال زعيمه عنه وعن دوره في السلطة، لكن هذا الشعار، ما كان ليُرفع لولا التخطيط والتدبير من كوادر "المستقبل" التنظيمية وبالتنسيق مع الحريري نفسه. لكن، بعد وصول الحريري إلى بيروت، وبعد افتتاح جولاته السياسية بزيارة السرايا للقاء خصمه السابق رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، أثبت الحريري أنه هو أيضًا لم يتجرع قرار الخروج من الحياة السياسية.
وبالفعل، استطاع الرئيس الحريري أن يرمي طعم رغبته بالعودة إلى عالم السلطة والسياسية، وأن يلفت الأنظار بعناية، بدءًا من تسريحة شعره الجديدة التي تحولت في ذكرى اغتيال والده إلى حديث الناس، فتصدرت صوره والتعليقات عليها منصات التواصل الاجتماعي. وهذا ليس تفصيلًا عابرًا، بل إن الحريري بدا كأنه حضّر جيدًا لهذه الزيارة من مهجره الإماراتي، وأن يتحول إلى حديث الناس ولو لأيام قليلة، عبر طلته وتجييش مشاعر جمهوره، وبزيارته الأولى من نوعها للسرايا بعد عزوفه، وكأنه يرمي سهامه بأكثر من اتجاه داخليًا وخارجيًا، ليقول: أنا لم انتهِ.
سم المقاطعة
وواقع الحال، تبدو زيارة الحريري كأنها لجس النبض شعبيًا وسياسيًا وخارجيًا، خصوصًا أنه حرص على إحاطة نفسه بالألغاز في هذا البروتوكول السنوي، الذي لم يحمل ضوءًا أخضر حتميًا لعودته السياسية.
تقول أوساط تيار "المستقبل" لـ"المدن"، بأن الرسالة هذا العام، صدرت من جمهور الحريري نفسه الذي أراد القول بأنه لم يبتلع "سم المقاطعة" السياسية بعد عامين من عزوفه.
تضع هذه الأوساط شعار "تعوا ننزل ليرجع"، في إطار إيجاد متغيرات كبيرة بالمنطقة ولبنان، قد تدفع ليكون الحريري جزءًا وركنًا من تسوية داخلية مقبلة. علمًا أن زيارة الحريري ما زالت تندرج تحت سقف تعليق عمله السياسي.
كما يرى محبو الحريري أنه هو الوحيد من استجاب لمطلب الناس خلال ثورة 17 تشرين 2019، حين أعلن استقالة حكومته، وأنه اليوم صار مطالبًا بالاستجابة لمطلب جمهوره الذي يريد استئناف نشاطه السياسي. ويعتبر هؤلاء، أن خصوم الحريري في السياسة قبل حلفائه، تحسسوا التداعيات السلبية لعزوفه، بفعل الخلل الكبير الذي تركه لدى الطائفة السنية وانعكس على مختلف مكونات البلد السياسية.
عمليًا، ما كان لهذا السجال الذي يرافق زيارة الحريري البروتوكولية، لولا الفراغ الكبير بالحياة السياسية اللبنانية عمومًا ولدى الطائفة السنية على وجه التحديد، بمعزل عن الجدوى الفعلية من عودة الحريري للسياسة. وهو ما كرسته حشود الناس الذين توجهوا إلى "بيت الوسط" للقاء الحريري، وأغرقوا المنصات بصورهم الترحيبية معه.
وفيما يتأمل جمهور الحريري أن يدلوا بما يرغبون به، بعد محطته على ضريح والده وسط الحشود الشعبية، لا توحي المؤشرات في الواقع أن عودة الحريري محسومة، وإن كانت خيارًا محتملًا أكثر من العامين الماضيين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها