الحرب المندلعة في غزّة، لا يمكن أن تكون استثناء من مسؤولية المراجعة. ففحص الأهداف السياسية البعيدة، فحّصاً مدقّقاً، له وظيفتان متلازمتان. الأولى، هي مراقبة مطابقة الإعلان السياسي لحقيقة المعطى الميداني. والثانية، هي مرونة تحريك الأهداف، تصعيداً لمطالبها، أو تخفيضاً لسقوف هذه المطالب.
وإلى جانب فحص الأهداف، وبالتلازم معه، هناك فحص الخطط القتالية الميدانية، وآلة ترجمتها على أصعدة العدد والعتاد والتقنيات والإدارة اللوجستية، والاحتياط التدخيري والتمويني.. ومع كل ما سبق، هناك ما هو أكثر أهمية، مثل حساب الأفق السياسي للحرب، وحساب كلفتها البشرية والمادية العامة، وتقدير مدّتها، واستشراف انفتاحها على مدى سياسي حاضن من "أهل البيت"، في حالة غزّة اليوم، وبعيداً من حدائق البيت، الأمامية والجانبية والخلفية، في الحالة ذاتها.
من موقع التضامن مع القضية الفلسطينية، ومن خلال النظر إلى مأزقها السياسي الحالي، من الضروري مغادرة "دواوين الحماسة" القديمة، ومن الأهميّة بمكان، كفّ "تفعيلة" الشعر الثوري الراهن، والذهاب إلى المطالبة بالتخلّي عن مطالعات الخبراء الاستراتيجيين الذين تحفل بوجوههم الشاشات. هؤلاء وهؤلاء يحدّدون هدف القول مسبقاً، ثم يجهرون في حشد الأدلة التي تجعل هذا الهدف قريب المنال، ويوزِّعون نُذُر الاستبشار، التي تجعل النصر في الحرب الدائرة على مسافة زمنية لا تتجاوز موعد اختتام كل نشرة إخبارية.
على خطٍ معاكس لهؤلاء، لا بديل من البقاء على جادّة الموضوعية العمليّة، التي بموجبها يُعاد تحديد كيف يكون الانتصار انتصاراً في الحرب الدائرة، وكيف تكون استدامة الاشتباك ميدانيّاً اسماً مستعاراً لمراكمة فشل استراتيجي، تكون لحظة تبلوره الواضح نقطة ختام تفصل بين الرغبة والواقع، وبين المأمول والمتحقق. وتكون فيصلاً تعريفيّاً لمعنى الانتصار ولمعنى الهزيمة من دون عبارات زائفة، ومن دون افتعال وقائع تضليليّة.
لو شئنا مراجعة الحرب من الضفّة الفلسطينية، سنقع على حقيقة مفاجأة من خطّط للحدث، ومن أعطى الأمر بتنفيذ العملية، بما أسفرت عنه المفاجأة من نتائج. لمن أراد الأخذ ببيانات القيادة الفلسطينية المقاتلة في غزّة اليوم، حريّة اعتماد مضمون هذه البيانات، ولمن أراد العودة إلى محاسبة اليوميّأت، من خلال النتائج المتدحرجة من الجهة الصهيونية، حريّة ومسؤولية القول، إن الأهداف المضادة التي أعلن عنها العدو شَكّلتْ مفاجأة جديدة لقادة المقاومة الإسلامية في غزّة. إذن، نحن في إزاء مفاجأتين إحداهما تكتيكية، هي تلك التي أضمرتها حماس والجهاد الإسلامي، والثانية استراتيجية، وهي تلك التي أفصح عنها بعد إضمارٍ كامن قادة الكيان الغاصب. تصفية الحساب مع الإعلان من "ضفتنا"، أي ضفّة كل الواقفين على خط الدفاع عن القضية الفلسطينية، وتصفية الحساب، مع خطأ التقدير لردود الفعل المعادية، مسألتان حاسمتان في سبيل استقامة فعل المراجعة "على النار". هذا لأنّ ما يلوح في الأفق هو احتمال التهام نار العدوان للمساحة الأوسع من مسألة "الكيانية الفلسطينية"، ومن مسألة إعادة استوائها قضية مكتملة "القوام".
في السياق، ومن ضمن المواكبة اليومية لتطورات الميدان القتالي في غزّة، من المفيد فتح نقاش حول ماذا ربحت المقاومة الإسلامية، حتى تاريخه، وماذا خسرت. نعم معادلة الربح والخسارة الآن، ومن دون انتظار لليوم التالي بعد صمت الآلة الحربية.
لماذا الآن؟ لأن ما يمكن الحصول عليه بالتناسب مع ميزان القوى الواقعي اليوم، قد لا يكون ممكناً غداً. هكذا تقول الواقعية التي لا تأمن عواقب خطاب الابتهاج المفرط، ولا تأمن الخطاب ذاته، كنتيجة لما هو مرتقب من عواقب. جرعة التفاؤل الزائدة، لا تعدو كونها مقدمة لجرعات إحباط ويأس وتيئيس مفرطة، وهذه وتلك، من مزايا "الثقافوية"، التي تضع كل حالة "نضالية"، بين حدّي "لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ"...
تواجه الإسلامية القتالية التي انتعشت في غزّة سؤالاً مزدوجاً هو: كيف توازن حماس مثلاً، بين حماس الفكرة والعقيدة، وحماس الاشتباك والقتال المستدام؟ ما هو في اليد المعلومة، تراجع "التشكيلات" القتالية، النظامية أو شبه النظامية، لمجموع الفصائل الفلسطينية المقاتلة. هذا في المنظور العسكري: تراجع من قتال الجبهات إلى قتال "حرب المدن" شرط هذه الأخيرة اتساع نطاقها الجغرافي، وكثافة حاضنتها الشعبية.
الشرط المشار إليه، بشقيه، بات غير متوفّر بعد نتائج المعارك في شمال قطاع غزّة، وفي خان يونس، وربماً غداً في رفح، التي ما زالت مستبعدة عملياً وليس استهدافياً حتى اليوم، بسبب من تحفظ دولي وبسبب من ضغوط عربية.
الانتقال إلى أسلوب "حرب المدن" يجب أن يكون مقترناً بسؤال حدّي وموضوعي وهام: "هل تتوخى المقاومة الفلسطينية إنهاك العدو من خلال هذه الحرب؟ وعليه هل هي قادرة على ذلك؟ واستطراداً، هل تعتقد بأنه يمكن تكرار تجربة العاصمة اللبنانية بيروت، التي انسحب منها الجيش الصهيوني بعد عشرة أيام من السيطرة عليها؟ طلائع الجواب المسؤول، تتطلب التمييز بين الحالتين، أي بين غزّة وبيروت. وتقتضي التمييز أيضاً، بين "تعريف" احتلال بيروت وتعريف إعادة احتلال غزّة، بالقياس إلى الخطط الصهيونية الأصلية. ثمّة تمايز وتمييز. وعلى كل حريص على المسألة الفلسطينية أن يدقق في الأمرين. ففي ذلك منجاة من العجلة، ومن التسرّع في استنتاج الأحكام.
ما سبق، يرجّح العودة إلى حماس الفكرة، وإلى الإسلامية الفكرة، أي إلى العامل الذي لا يمكن اقتلاعه بقوة القتل المعادي، وإلى البند الوحيد الذي لن تفوز في ميدانه قوى العدوان الصهيونية.
ترجيح الفكرة يتصل اتصالاً وثيقاً بأمن الحاضنة الشعبية، وبسلامتها. وهذه نالها حتى الآن، ما نالها مما هو معروض على الشاشات، من قتل وتجويع، واقتلاع وتهجير، وتدمير... إذن، وكمهمّة أولى داهمة: كيف يُحمى ما تبقى من هذه الحاضنة الشعبية؟ وما السبيل إلى تحديد خسائرها، بعدما نزل بها من خسائر؟ الجواب هو مسؤولية المقاومة التي عليها أن تدرك حدود السلاح، وعليها أن تدرك توقيت سياسة استدراك ما تبقى من شعب، ومن إمكانية استخدام سلاح، أو من احتمال زوال القدرة على استخدامه.
يطرح المشهد الأول السؤال التقليدي، ما العمل والحال ما هي عليه؟
ليس في اليد سوى جواب المزاوجة بين أسلوب القتال التراجعي الحالي، والاستعانة بالجهود السياسية التي تقودها "المجموعة العربية"، في أروقة التفاوض، وعلى منابر تحديد المطالب الفلسطينية الاستراتيجية، وفي طليعتها مطلب الدولة الفلسطينية، الذي يشكل حلاًّ حاسماً لمسألة الصراع العربي – الصهيوني، الذي صار صراعاً فلسطينياً – إسرائيلياً.
استكمال اللوحة الصراعية الحالية، يستحضر الضفة المعادية. فهذه -ومن دون إطالة- أبدَت تكيّفاً مع معادلتها الحربية، وتجاوزت بعض بنودها التي أسقطها الصمود الفلسطيني الذي فاجأ الجميع.
للتذكير، ثالوث المعادلة: الوقت، والخسائر، والتغطية الدولية. سقط عامل الوقت، أي عامل الحسم السريع للمعركة، واستوعب الكيان ضغط العاملين الآخرين. النجدة جاءت من "الغرب" مجتمعاً، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، التي ما زالت في موقع "القلق على المدنيين" الفلسطينيين، وفي موقع الحماية الشاملة للموقع الصهيوني المتقدم، في قلب المنطقة العربية.
للمقارنة: أقصى ما استطاعه المجموع العربي، الانخراط في الوساطة بين طرفي الصراع. وأقصى ما أقدم عليه المجموع الغربي، محاولة إطعام ما تبقى من أفواه جائعة. طعام للفلسطينيين، وآلة قتل للصهيوني. فكيف يأكل المقتول؟
نخشى على قضية فلسطين من أبناء الرغبات، ونرفع الصوت مع أبناء المسؤولية... وكي لا تتكرّر واقعة "طليطلة" الأندلس في غزّة فلسطين، لتكن مبادرة قبل فوات الأوان.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها