السبت 2023/09/16

آخر تحديث: 09:08 (بيروت)

أيلول الأزمنة اللبنانية

السبت 2023/09/16
أيلول الأزمنة اللبنانية
في أيلول الحالي، وفي سياق الانقسام المتفاقم، يتوزع الطائفيون أوهام النصر وأوهام التراث(Getty)
increase حجم الخط decrease

شهر أيلول، من العام 1982، محطة فاصلة في مسيرة الحرب الأهلية اللبنانية، فهو اختزل المسار التناحري وكثفه، ووضع علامة افتراق إرادوية، بين محاولة مشروع قواتي ترنَّح تحت وطأة سقوط قائده الرئيس بشير الجميل، وبين مشروع مقاومة وطنية، أصيبت قواه بدمارٍ كبير، بعد سقوط عاصمته بيروت. كانت الإرادوية واضحة في الردين المتناقضين، على السقوطين المدويين: في مكانٍ، أمعنت قوى "الهيمنة الوليدة" في مسلكها، فحاولت استدراك غياب الرمز، بتحقيق مفاعيل خطابه على الأرض. اقتحام بيروت وحرب الجبل، والمداهمات والخطف... كانت خطوات في هذا السياق. هذا المسلك أفصح عن عدم فهم "الورثة" لمغزى إصابة مشروع الهيمنة الفئوية في رأسه. الآن صارت النتائج معروفة، دون ادعاء أن الخلاصات باتت مفهومة بعمق وبشمولية.

في مكان آخر، راكمت "بقايا الحركة الوطنية" مقومات ديمومة "جبهتها"، وأرست دعائم سلوكها اللاحق، في قراءة معاكسة لميزان قوى اللحظة السائدة، وهي قطفت "جنى سريعاً" عندما خرج الاحتلال الإسرائيلي من بيروت. في الراهن باتت الوقائع معلومة دون المغامرة باستخلاص: أن الدروس جرى تمثلها وأن النجاح المتحقق لا يقيم صلة "الرحم" مع أصل تناقضاته اللبنانية الأولى.

بين سقوط أثمر سقوطاً مضاعفاً، وهزيمة أفضت إلى نجاح لاحق، جرت دماء فلسطينية أيضاً، كانت شحناً للحالتين في اتجاهيهما المفترقين، وكانت وصمة عار وستظل، في مكان، ووخز ضمير وشعور بالتقصير عن النجدة في مكان آخر، وعنواناً دائماً لخذلان "دولي" لم تحسن قواته غير إفساح الطريق أمام قتلة تلك الأيام.

استعادة ذلك المناخ "الأيلولي" ليست جردة ذكريات، بل مناسبة للقول إن الخلاف ما زال مستمراً، وإن حسن مقاربته، يقوم على استنطاق فحواه، بمنطوقها الفعلي، وليس بتأويلاتها، وعلى رؤية الواقع في النص، وليس على إزاحة الفعل والاكتفاء منه بمنصة الكلام. إذا فعلنا ذلك، استطعنا الوقوف على الأخطاء وعلى الخطايا لدى أطراف الصراع، طَلَباً للفهم واجتناباً لحفلة التكاذب التي ما زالت سائدة حتى الآن.

على أية دعامات نهض "النص القواتي" الذي صار واستمرَّ "بشارة البشير" لاحقاً؟ في إجابة موجزة يقتضيها الاسترجاع، كانت الدعوة الحقيقية ماثلة، في السعي إلى إقامة كيان بهيمنة طائفية غالبة، فإذا تعذرت الهيمنة العامة، أكتُفِيَ منها بمواطئ هيمنة خاصة "في مجتمع مسيحي" مقولب، أما اللغة، فاستثارة طائفية واضحة، وافتعال لبنانية، بتاريخ ومفردات ومواقع ولهجة وعادات، وتحصين ذلك باستعداء "الأغيار" العروبيين الذين غزوا الحضارة اللبنانية، حسداً أو غيرة، وتألَّبوا على فرادة لبنان لإلحاق "الوطن المميز" بصحراء بداوتهم!! كان الخطاب صافياً في الفعل، ونقياً في القول، وجلياً في العنف، ولا ينفع الآن، اقتطاف جملة من خطاب للرئيس الراحل بشير الجميل، للدلالة على التسامح الذي كان سيشيعه، أو عن الوطن الجامع الذي كان يطمح إليه، فالسياق، مرة أخرى، هو قاموس النصّ، واللحظة "المنتشية" لا تفلح في اجتثاث زمن السياق المتراكم.

على الطرف الأهلي المقابل حمل "النص" الوطني خطاب التضاد، ومارسه واقعاً على الأرض. العروبة في لبنان جامع وطني وصيغة لحمة بين اللبنانيين. ترجمة العروبة في لبنان: الدفاع عن المقاومة الفلسطينية وتمكينها من ترسيخ شخصيتها المستقلة ومن حرية حركتها. الإصلاح الديمقراطي سبيل لإعادة صياغة "الاجتماع اللبناني"، بعد التطورات التي لحقت بسنوات تأسيس الكيان. الحرب الأهلية ممر إلى التغيير طالما أن "الطبقة الحاكمة وحليفها الانعزالي" قد سدّا كل المنافذ. تلك دعائم أساسية نهض عليها "القول الوطني" الذي كان يسعى هو الآخر إلى تبديل التوازنات الطائفية، والتخفيف من "فظاظة" الهيمنة السائدة من خلال مشاركتها في أسباب وعوائد هيمنتها. في كلا النصيّن، لم تكن ادعاءات أصحابهما حاضرة موضوعياً. فالوحدة والسيادة غير حاضرتين "عملياً"، في خطاب القوات اللبنانية، واستدراج الاستقواء الخارجي دليل على ذلك، ومعنى "الخصوصية" اللبنانية في التوحيد، يضيف دليلاً آخر. قصدت "القوات" التطويع والإلغاء، وهذا يخالف بناء الوحدة الناجزة الطوعية.

في المقابل، لم تشكل الديمقراطية دليلاً مرشداً لممارسة "الوطنيين"، وغاب لبنان الكيان المخصوص، لتحلَّ محلَّه مساحة جغرافية تتحرك فوق مداها مشاريع شتى، دون اعتبار المقتضيات الوطنية. يجد ذلك تفسيره في فهم "الوطني" لخصوصية التطور اللبناني وربطه عضوياً بالتطورات العربية، كذلك يجد فهمه في معنى "ركوب الديمقراطيين" مركب الحرب الأهلية، وممارستهم "إقفالاً وطنياً" شكّل الوجه الرديف لإقفال النظام و"قواته". قد يحلو للبعض أن يقيم تمييزاً بين خطأ وطني وخطيئة قواتية. له ذلك، إنما عليه أن يسعى إلى تعيين القياس المرجعي ذي الصفات اللبنانية، الذي يمكّن من ذلك التمييز.

لقد أنتج الانفلات اللبناني ما بعد أيلول 1982، ميزان قوى اخر، مهَّد للقطع مع شعارات سابقة، من جهة، وكرس شعارات "سابقة لاحقة" من جهة أخرى. كان اتفاق الطائف تتويجاً لحسم مرحلة استمرت منذ أيلول 1982، وحتى تاريخ انعقاده، وافتتاحاً جديداً لمسار ما زال حتى اليوم.

مع الطائف هُزمت حرب التحرير العونية، بعد أن هُزمت حرب تحرير كل لبنان البشيرية. مهَّد للهزيمة تنامي مزاج مسيحي لبناني مخالف لسيرة "المغامرة" الدائمة، والتفاف قوى أساسية حول هذا المزاج من الصرح البطريركي، وما يمثل من ثقل مادي ومعنوي، إلى سمير جعجع "البراغماتي" يومها، إلى طيف واسع من المسيحية السياسية التقليدية. لم يكن الانحياز "المسيحي" انكساراً في نظر أهله، بل كان حكمة وتأقلماً، أفرزهما التأمل في تعرجات الحرب الأهلية وظروفها المتغيرة. لكن الأمر لم يقع هذا الموقع لدى "الشركاء" الآخرين في الوطن. فلقد تمخَّض الوضع عن شعار تجديد العيش المشترك في النصّ، وقولبة للوضع على شيء من "الغالب والمغلوب" في الممارسة. على هذه الخلفية تقرأ تطبيقات الطائف، بنصها وروحها، إذ لا معنى للطائف "البيان"، خارج الوقائع التي أوصلت إليه.

تعثَّر الطائف، استأنف، مسيرة ما قبل أيلول 1982، وما بعدها، من خلال: إحلال هيمنة مكان هيمنة، أو العودة إلى لعبة "الإقصاء والإلغاء" وتبديل هويّة المحرومين من خيرات النظام، والممنوعين من المشاركة في صياغة خياراته. ما ذُكر أعلاه عاد فساهم في تجديد قاعدة التوتر الاجتماعي من مداخل سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية. ترسيم وصاية فئة من اللبنانيين على فئات أخرى تحت يافطة عناوين وطنية كبرى، من قبيل المقاومة وما يشبهها... هذا وغيره، عاد ليشكل فهرساً لعناوين كتاب الاحتقان، الذي عاد اللبنانيون اليوم، إلى تقليب صفحاته. أما النظّارات... فمن التراث الذي لم تسعف الحال على تجاوزه. يشترك "الفاعلون" في الوضع اللبناني، في الغرف من الماضي، دونما التفاتٍ إلى افتراق الزمن عن شعاره وعن قوامه، ولا يعتنون بمآل القوى التي تماهَت مع ما سبق من تحليلات ومن برامج ومن شعارات.

في ركاب ما يمكن تسميته التخبُّط السياسي والنظري العام يدأب المعترضون "يميناً"، على إعلاء شأن الصيغة اللبنانية وعلى تقديس منطلقاتها. هؤلاء يغشى بصيرتهم ضباب سياسي يمنع استشعار حقيقة المتغيرات.

يتنقّل "الوفاقيون يساراً"، بين ضفةٍ طائفية وأخرى، فيستعيرون تعريفاً للوطنية من هنا، ومضموناً للديمقراطية والاستقلال والسيادة من هناك، ويصرّون على "جمع" المتناقضات. يُهمل "اليساريون" هامشهم المتاح، أو هم يعجزون عن ملئه، ويضربون صفحاً عن خلاصة: أن الحلول الوفاقية لا ترى النور ضمن جدران الطوائف السامقة، وإنما على هامشها، وأن الفرق واضح بين مراكمة تتيح الخروج على الطوائف، وبين ممارسة لا تعطي لصاحبها، أو لقواها سوى دور استشاري ملحق بهذا التكتل الطائفي أو ذاك.

في أيلول الحالي، تحمل الوقائع على القول، إن الوضع اللبناني يشهد تراجعاً جوهرياً، عن الأزمة الأيلولية السابقة، فالمقاومة بنسختيها، المقموعة والظافرة، فقدتْ زخمها الداخلي، وعجزت عن ضخ دفقها التحريري، في أوردة النسيج الاجتماعي اللبناني، ولم تستطع لأسباب بنيوية، أن تضيف مساهمتها، إلى مواد البناء الاستقلالي الداخلي.

أما الانقسام الإجمالي اللبناني، الذي نشأ حول مشروعين في الداخل، وحول نظريتين لموقع لبنان ضمن محيطه، فقد آل إلى تشرذم مذهبي لا يعرف أصحابه، من الهموم الوطنية، إلاّ العناوين التي يوردها "أولي الأمر" على مسامعهم... ولا يعلمون من الثقافة العامة إلا مرويّات التراث.

في أيلول الحالي، وفي سياق الانقسام الذي تفاقم فصار خطيراً، يتوزع الطائفيون أوهام النصر وأوهام التراث، فيديرون معركة رئاسة الجمهورية، بلا اسم وبلا رئيس. يتدافعون صوب حلقة اختلافهم الرئاسية... يتدافعون صوب انفضاض حقيقي عن لبنان المقاومات والرسالة والمعنى... والتراث.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها