الأحد 2023/07/02

آخر تحديث: 17:29 (بيروت)

في رثاء حبيب صادق: فارس السياسة النظيفة والمدنية الصادقة

الأحد 2023/07/02
في رثاء حبيب صادق: فارس السياسة النظيفة والمدنية الصادقة
نسيب لحود وحبيب صادق (الثاني والثالث من اليسار، الأرشيف)
increase حجم الخط decrease

فارس آخر من فرسان الثقافة الانسانية الملتزمة، والسياسة "النظيفة"، والوطنية المدنية الصادقة، ترجّل أمس.

حبيب صادق، مع ما يرمز إليه من أصالة جنوبية ولبنانية وعربية -وأضيف "فلسطينية" لما له من أفضال متجردة على القضية- وما يجسّد من تطلع لبناني جامع إلى دولة المواطنة والحداثة والعدالة الاجتماعية، ارتحل في الواقع، وفي السياسة، يوم نُحِرَ مشروع 14 آذار الأصلي على مذبح المحاصصة المذهبية و"الاتفاق الرباعي" السيئ الذكر، غداة الانتفاضة غير المسبوقة للشعب اللبناني بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

تشرفت بصداقته وتعلمت كثيراً من العمل سوية، لسنوات طويلة، من 1992 إلى حين انكفائه السياسي الطوعي (وأنا أقول القسري) في 2005. فكنت ضيفاً شبه دائم في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وكان المجلس شبه مقر دائم لكل المبادرات الوطنية والمدنية في تلك الحقبة، وكان حبيب صادق محركاً لا بل محوراً أساسياً لتلك المبادرات والتحركات. أذكر تجمع "عناقيد الوحدة" عند درج المتحف عام 1996 رداً على عدوان "عناقيد الغضب" الاسرائيلي، بمشاركة كبيرَين آخرَين، المرحوم نسيب لحود والرئيس سليم الحص أطال الله بعمره. تلك كانت التظاهرة المدنية الأولى تخترق قرار سلطة الوصاية السورية حظر التجمعات، أية تجمعات لا تقيمها هي أو بإيحاء من أجهزتها. وأذكر يومها كمية التهديدات التي انهالت علينا لهذا "التجرّؤ الفظيع".

مثال مضيء آخر، حملة "بلدي، بلدتي، بلديتي" عام 1998 التي أَجبَرت السلطة حينها على إجراء أول انتخابات بلدية بعد الحرب، هي التي كانت مصممة على التمديد للمجالس البلدية إلى ما لا نهاية. هذا إلى سعينا الدائم، نحن ونسيب وحبيب ومن معنا في تلك الفترة العصيبة من القمع والتنكيل، إلى إضفاء أكبر قدر من الديموقراطية والحرية والتنافسية على الاستحقاقات النيابية، خصوصا انتخابات 1996 و2000، فضلاً عن "مؤتمر الحريات" في الكارلتون، ومؤتمرات البريستول، وصولاً إلى انتفاضة الاستقلال واعتصام الثلاثة أشهر في ساحة الشهداء، التي أسميناها ساحة الحرية.

أبرز ما يحسب أيضاً لحبيب صادق في هذا الميدان هو مساهمته الأساسية في إطلاق "المنبر الديمقراطي"، الذي شكّل الجناح المدني واليساري، و"الشيعي" إذا جاز التعبير، لمعركة إخراج الجيش السوري وإنهاء الوصاية السورية. "المنبر"، كما كنا ندعوه اختصاراً وتحبباً، تجربة فريدة في الحيز العام اللبناني، جمعت بين 2000 و2005 طيفاً واسعاً من أعلام الثقافة والسياسة والفكر المستنير أخص منهم بالذكر سمير قصير وسمير فرنجية وحكمت العيد، ومختبراً للتلاقح الفكري والمصالحة بين تيارات وتنظيمات تمتد من وسط اليمين إلى وسط اليسار، ومن اقصى "اللبنانوية" إلى أقصى "العروبة".
مساهمة هذا الطيف كانت حاسمة في تشكيل نصاب لبناني جامع يتبنى قضيتي السيادة والحرية والخلاص من الوصاية السورية، ولا يرى إطلاقاً أي تناقض بينها وبين تطوير الديموقراطية، ولا بينها وبين قضيتي المقاومة والتحرير، التي كان أشد ما يؤلمه محاولة البعض مصادرتها واحتكارها وتجويفها ورهنها في بازارات الإقليم.

هذه الرؤية المتقدمة والجريئة كلّفت سمير قصير حياته، وكذلك جورج حاوي.
حبيب صادق كان في صلبها، وفي صلب التسويات الخلاقة والتقاطعات و"الهندسات" و"المصالحات" التي كنا نجريها لتجسيد تلك الرؤية، ليس فقط بسعة معرفته وعمق تحليله، بل أيضاً بخصاله المرنة وروحه الطيبة، التي كانت تختصرها عبارة "يا عزيزي". من جملة متكلّفة مستلّة من العربية الفصحى، تحولت "يا عزيزي" مع حبيب صادق إلى مفتاح سحري لفض النقاش وبت النزاعات. عندما يتلفظ حبيب بلطف قاتل بهاتين الكلمتين السحريتين، كان الجميع يدرك أن الجدل قد أخذ مداه وآن أوان إخراج الموقف.
أكثر من ذلك، من بعده، باتت "يا عزيزي" جزءًا طبيعياً من المعجم اليومي لهذه البيئة.

يغادر حبيب صادق ولا تغادر القضايا التي أثقلت صدره لعقود، عقود من التفاني والزهد كرسها للشأن العام، وأحجم خلالها عن تكوين ثروة خاصة أو حيّز خاص أو حتى أسرة خاصة. لكنه يغادر، كما عاش، حراً طليقاً، متخففاً من أي إثمٍ أو دمٍ أو وخز ضمير.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها