الأربعاء 2023/03/29

آخر تحديث: 12:24 (بيروت)

الحالُ أنّنا رَسَبْنا في العصيانِ المَدَني..

الأربعاء 2023/03/29
الحالُ أنّنا رَسَبْنا في العصيانِ المَدَني..
نومَ اللبنانيّين المتمادي على ضيم نكبتهم (Getty)
increase حجم الخط decrease

لم تقُم الساعةُ حين تواطأ رئيسُ مجلس النوّاب ورئيس حكومة تصريف الأعمالِ اللبنانيّان على تمديد فصل الشتاءِ شهراً ولكن حصلت "ضجّةٌ ما بين أحمدَ والمسيح"... هذه الصفةُ التي لازمت الأزمةَ المشارَ إليها من بابِها إلى محرابِها، لم تَحُلْ دونَ جَريان ألسنةٍ وأقلامٍ شتّى بعبارةِ "العصيان المَدَني". والذين أجازوا هذه العبارةَ تسميةً لما حصل لم يكونوا يستنكرون "العصيان" بل بدوا، بخلافِ ذلك، أقربَ إلى الاستبشار بما عَدّوهُ مخالفةً موضعيّةً لموقف الرضوخِ المديدِ الذي جَنَحَ إليه اللبنانيّون بعد خمودِ الحركة التي شهدتها الأشهرُ الأولى من نكبتهم المديدة، وهذه لا يدُلّ شيءٌ مذ ذاك على أنّ لمفاعيلها المدمّرةِ حدّ معلوم. وهذا ناهيكَ بأن يوجَدَ دليلٌ على توجّهٍ نحو مخرجٍ ما من دوّامتها الطاحنة. كان معنى الاستبشار أنّ الجانحين إليه تبيّنوا في ما يتعدّى طوفان الهزل الذي أطلقتْهُ أزمةُ الساعة، موضوعاً وتعابيرَ، ما يسوّغُ اعتبارَ الرفض الذي استثاره القرار إرهاصاً -لم يستبعد بعضُهم أن يكونَ له ما بعده- بما يخالفُ الاستكانة السائدة للنكبةِ ونومَ اللبنانيّين المتمادي على ضيمها. هذا الإرهاصُ ارتأوا أن يسمّوه "عصياناً مدنيّاً" من غير سؤالٍ عمّن يؤولُ إليهِ، في مشهدِنا السياسيّ المتهالك، طربوشُ سعد زغلول أو خرقةُ المهاتما غاندي وعنزته...

والحالُ أن هذه التسمية تنطوي، في الحالةِ اللبنانيّةِ على العموم وفي ظرف النكبةِ الجاريةِ على التخصيص، على مثارَين للاستغراب، في الأقلّ. المَثارُ الأوّلُ أنّ "المدنيّة" خُصّت في لبنانٍ، من عقودٍ باتت كثيرة، بموقعٍ مستقرٍّ في مواجهة "الطائفيّة". هذا ما كان في الدعوة مثلاً إلى تشريعٍ مدنيّ للأحوال الشخصيّة وهو ما كان في الدعوة الأعمّ إلى "دولةٍ مدنيّةٍ" تخلف النظامَ الطائفيّ القائم. فكيف صَحّ أن يعدّ عصيانا مدَنيّاً رفضٌ لقرارٍ أُخِذَ عليه اتّسامُهُ، مع عُمومِ مفاعيلِه، بالانفرادِ الطائفيّ فجاءَ الرفضُ بدورِه، على جاري العادةِ في هذا النوعِ من الأحوال، مكافئاً في طائفيّته للمرفوض بل أشدّ منه طائفيّةً بما تخلّله من ذهابٍ إلى أقاصٍ أهونُ شعاراتِها الفدراليّةُ ولكنّ بين سكّانها أيضاً شبَحُ التقسيم وأخيلةُ الحربِ الأهليّة. هذه الأخيرةُ، أي الحربُ الأهليّة، ليست "مدنيّةً" في لسانِنا، على ما هو معلومٌ، وإن تكن هذه صفتُها في ألسنةٍ أجنبيّة. ولعلّنا اخترنا لها صفة "الأهليّة"، على وجه التحديد، ليبقى في وسعها أن تكون "طائفيّة" وليبقى في وسع "المدنيّة" أن تبقى مخرجاً مرتجى من "الطائفية" وضدّاً يُظهرُ حسنَهُ ما خَبرناهُ من قبائح هذه الأخيرة. أقربُ إلى تجسيدِ الطائفيّةِ صفةً لما جرى خطّ الفصل، في كلّ من القطاعاتِ التي كان عليها أن تتّخذ قراراً من إجراء رئيس الحكومة، ما بين مؤسّساتٍ انصاعت وأخرى تمرّدت. وقد مَثّلَ توزّعُ المؤسّساتِ المعلومةِ الهُويّات في قطاع الإعلام على جانبَي الخطّ المذكور -وهذا طبيعيّ- أظْهَرَ تجسيدٍ لطائفيّةِ المواجهة.

مثارُ الاستغرابِ الآخر أنّ من وجدوا في مهزلةِ الساعةِ، أو في سلوكِ إحدى جهتيها بالأحرى، بادرةً أو أزْيَدَ من بادرةٍ لعصيانٍ مدَنيّ لم يكن خطَرَ لهم أن ينسبوا هذه الصفة إلى حالة التعطيل المتمادي الضاربة أطنابَها من شهورٍ كثيرةٍ في إدارات الدولة وفي قطاع التعليم (الرسميّ منه على الخصوص) والتي كانت مشتملةً إلى أمس على القضاء. لم يخطر لهم "العصيان المدنيّ" وصفاً لحالة الشلل هذه وهي مستوليةٌ على معظمِ أجهزة الدولة فيما يرمي العصيان المشارُ إليه إلى شلّ يد الدولة ويعرّفُ بمرماه هذا. لا بُدّ من التنويه هنا بالاستثناء الذي مثّلته أجهزةُ القمع، ولا تزال، في هذا المشهد، وهذا استثناءٌ تضافرت جهودٌ من الداخل والخارج لحفظه، معبّرةً عن خيارٍ إستراتيجيّ حاظٍ، إلى الآنِ، بنوعٍ من الإجماعٍ السياسيّ، المعلَنِ والضمنيّ. مهما يكن من شيءٍ، لم يظهر من ينسب إلى العصيان المدنيّ هذا الاستنكافَ الشاسع عن الخدمة العامّة. ولهذا سببٌ لا يصعُبُ تبيُّنه، وهو أنّ العصيان المشارَ إليهِ مقرونٌ لزوماً بهدفٍ سياسيٍّ. هذا فيما احتجاجُ الموظّفين الجاري خالٍ من السياسة، لا يجدُ ما يقولُه في صددِ السلطةِ وتكوينها ولا في المصادر السياسيّة للمحنةِ الجارية. فمدار حركتهم أجورهم المنهارة وما يتبعها من حقوق وحاجاتٍ مادّيّةٍ أو عمليّة. وهم أفلحوا، بإفراغهم هذه الحركة من السياسةِ، في تجنيبِها، إلى حدٍّ مقبول، ترجمة السياسة المعتادةِ في لبنان: أي التمزّق الطائفي.

على أنّ ما شهدناه في سنواتِ النكبةِ هذه من صورِ المواجهةِ لها والاعتراضِ عليها لم يكن على هذا الخواءِ من السياسة دائماً. فما انطلق في خريف 2019 ودُعِيَ بـ"الثورة" كانت السلطة وقواعدُ تكوينِها شغلاً شاغلاً له: لطليعتِه الشبابيّةِ في أقلّ تقدير. ولكنّ الكلامَ الطموحَ لم يجد من سبيلٍ يسلكُه بالأفضليّةِ سوى التظاهر والاعتصام. ولم يلبث أن ظهَرَ أنّ سالكي هذا السبيل ظلّوا معرّضين للحصار من قِبَلِ قوى جسيمةٍ أخرى حفظت تماسكها الإجمالي، في ما يتعدّى ضغوط المحنةِ العامّة، حولَ قياداتها الطائفيّة أي حول أركان السلطةِ والنظام القائمين. ظهر أيضاً أنّ "كلّن" لم يكن يعني "كلّن" فعلاً إذ بقيّ في وسعِ "بعضُن" أن يتخذ له مواقعَ في الحركة الشعبيّة مستفيداً من سنّةٍ استنّها النظامُ اللبنانيُّ لنفسهِ بعد الحربِ هي سُنّةُ الانتماءِ بحماسةٍ واحدةٍ إلى الحكم (أو إلى السلطةِ) والمعارضةِ معاً. هكذا وُجِدَ من بين قوى السلطةِ المعلومةِ من قَطَع الطرق محتَجّاً ومن تولّى قمع المعتصمين على الطرق أو في الساحات. بدا مستبعداً، والحالةُ هذه، أن يصلحَ التظاهرُ والاعتصام سبيلاً إلى تغييرٍ يُعْتَدُّ به في بنى سلطة كانت قادرةً، إذا أجالت النظر في البلاد المجاورة، أن تعلمَ، على سبيل المثالِ لا الحَصْرِ، أنّ مئاتِ ألوفٍ من القتلى وملايينَ من اللاجئين وجَعْلَ عالي البلاد سافلَها مثّلت، في مسلكِ النظامِ الأسديّ، ثمَناً مقبولاً لبقائه.

أيُّ شيْءٍ كان يسعُه -لو بَدا ممكناً!- أن يُمِدّ بفاعليّةٍ جادّة ما انطوت عليه حركة 2019 من طموحٍ سياسيّ؟ الجوابُ الأقربُ إلى التصديق هو العصيانُ المدنيّ: أي تجاوز التظاهر والاعتصام إلى شلٍّ ليدِ الدولة يستنزف موارد السلطة ويعطّل أجهزتها بما في ذلك زعزعةُ ولاء قوى القمع، وتصحبه، في المجتمع، إضراباتٌ متماديةٌ تجهدُ في الاستواء روافدَ للإضرابِ العامّ. من هذا كلّه لم يحصُل شيءٌ في خريف 2019 مع أنّ الحركة الجاريةَ آنذاك اقتربت بطموحها السياسيّ من هدف التغيير الثوريّ إلى أقصر مسافةٍ بلغَتها البلاد في تاريخها الحديث. اقتربت إذن ولكنّها لبثَت بعيدة.

في خريف 2019، لم تحصُل ثورةٌ. حصلت حركةٌ شعبيّةٌ نمَت بسرعةٍ ثمّ راحت تتهاوى حينَ ظهَرَ أمرٌ لا يبدو اليومَ عصيّاً على التفسير: وهو رُسوبُها في امتحان العصيان المدني.

اليومَ يبدو اللبنانيّون (بدليلِ أزمةِ الساعةِ مثَلاً!) أبعدَ ما يكونُ البعدُ عن مجرّدِ الترشُّحِ لهذا الامتحان.   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها