الثلاثاء 2022/10/18

آخر تحديث: 09:40 (بيروت)

قديس لحكم لبنان

الثلاثاء 2022/10/18
قديس لحكم لبنان
طبع فؤاد شهاب الحياة السياسية اللبنانية وهندس التوازنات (أرشيف الجيش)
increase حجم الخط decrease

كان لفؤاد شهاب منزلة خاصة في منزلنا الوالدي. وكان لقبه المعروف، بحسب جدي طانيوس وجدتي غاريتا، "القديس". في الحقيقة، كان صدر دار بيت جدي لوالدي عبارة عن "قاطع" خشبي نبيذي اللون، يفصل بين المطبخ (الكرار) وغرفة تخزين التبن والشعير للمواشي وبهو الاستقبال والنوم، وقد علقت عليه أيقونات وصور قديسين ومكرمين بلغ عددها العشرة أو أكثر؛ وحين بدأت طرح الاسئلة في سن التفتّح سألت جدتي غاريتا ذات يوم عن أسماء قديسي الايقونات واللوحات التي كانت تزيّن صدر الدار. فكان جوابها: هذه سيدة لبنان للشفاعة بلبنان وبشعبه، وتلك لمار جريس شفيع الرعية وحاميها، وهذه لسيدة الزروع شفيعة المزارعين، وتلك لمارعبدا محطّم الاوثان، وتلك لمار شربل شفيع المرضى، وهذه لمار شليطا شفيع الحيوانات، وتلك لمار مطانيوس قزحيا شفيعكما أنت وأخوك قزحيا، وهذه لمار مارون أب الطائفة المارونية وشفيعها، وتلك ليوحنا مارون بطريركها الاول وحاميها... أما هذه الصورة المترهلة والصفراء، صورة الرجل صاحب الزيّ العسكري، فهي ل "قديس لبنان"، كما قالت واثقة، لفؤاد شهاب، رئيس جمهورية لبنان الأسبق. الصورة مترهلة صفراء لقدمها ولأن الدهر أكل عليها وشرب، أما الطريقة التي عبّرت بها جدتي عن قناعتها ب "قداسة" فوأد شهاب فكانت حيوية نضرة وفيها من حماسة الشباب واندفاعهم ما فيها.

في الواقع، كانت أراء جدتي في الرئيس شهاب، والعاكسة لرأي جدي طانيوس من دون أدنى شك، ناتجة عن علاقة ربطت عائلة جدي بمشايخ آل حبيش، وتحديداً بيت جد الرئيس شهاب لأمه، الشيخة بديعة حبيش، بيت الشيخ طالب حبيش. كان جدي، وكما غالبية أبناء أدما الدفنه، شركاء زراعيين لمشايخ آل حبيش الذين كانوا يملكون، هم وبعض من الامراء الشهابيين «الغزراويين»[1]، مزرعة أدما الدفنه، كما كانت مسجلة في حينها في إحصاء 1867، والذي أجراه المتصرف داوود باشا. وكان جدي شريكاً زراعياً للشيخة رشيدة حبيش محفوظ، خالة الرئيس شهاب، في «العودة»[2] التي ورثتها عن أبيها، الشيخ طالب. فكان الرئيس شهاب، إبن بلدة غزير جارة قرية أدما الدفنه، يتردد الى عودة خالته الشيخة رشيدة منذ نعومة أظفاره للراحة والاستجمام. فنشأت بين جدي وأفراد عائلته والضابط الشاب فوأد علاقة ودّ كانت ترجمتها الفعلية تردد جدي الى منزل الشيخة بديعة، والدة الرئيس شهاب في جونيه، ومنزل الرئيس شهاب حاملاً اليهما، وبطريقة دورية، وبناءً على طلب الشيخة رشيدة، بعضاً من جنى المواسم الزراعية من عودتها وتربية الماشية فيها، من مثل الحليب ومشتقاته والبطاطا والبصل والثوم والمقتي والمشمش والصبّير والاجاص والتين والعنب ودبس الخرنوب وما الى سوى ذلك. وانتقلت هذه العلاقة من جدي الى أبي وعمي اللذين ثابرا على التردد الى منزل الرئيس شهاب في جونيه على عادة أبيهما طانيوس.

ونتج عن هذه العلاقة، التي ربطت هؤلاء الفلاحين البسطاء، جدي وأبناؤه، بالرئيس "المتّضع" فؤاد شهاب، تأييد جدي وعائلته لسياسة النهج التي جسدها الرئيس شهاب، وبمناصرتهم للشهابية السياسية التي اعتبرت امتداداً لسياسة الكتلة الدستورية أو النيو الدستورية. فكنا في السياسية شهابيون بالارث ودون جهد أو عناء يذكر.

لقد طبع فؤاد شهاب الحياة السياسية اللبنانية، وكان على وجه الخصوص "مهندس" التوازنات بين الاشكاليات التي رافقت مسيرة لبنان الكبير عبر الزمن. في الواقع "وازن" شهاب أولاً بين جبل لبنان والأقضية الأربعة التي "ضُمّت" الى لبنان الكبير عبر مخطط للإنماء الشامل وعبر إستقطاب "غير متحيّز" للكفاءات العلمية والادارية على مستوى الوظيفة العامة في الادارة اللبنانية. وهذا مايشهد له اللبنانيون كلهم. ووازن شهاب كذلك بين خصوصية لبنان وبعدها العربي، فعرف كيف "يهندس" التوفيق بين الهوية اللبنانية الكيانية والهوية العربية من خلال العلاقة مع ناصر والناصرية. فقدّمت الشهابية بذلك محاولة جادة لمعالجة إشكالية "المشاركة" و "المظلومية" التي رفعها "أبناء الأقضية الأربعة"، وخصوصا المسلمين منهم، على مدى ثلاثة عقود، منذ الاستقلال حتى إندلاع الحرب اللبنانية؛ و قدّمت كذلك محاولة جادة لمعالجة إشكالية "تنافذ" الخارج الاقليمي ذات الهوى العربي والداخل اللبناني وارتداداته على الداخل اللبناني، وهو ما كان يتوجّس منه "أبناء جبل لبنان" ويخشونه، وخصوصاً المسيحيين منهم، منذ نشأة لبنان الكبير.

كانت إشكالية المشاركة والمظلومية أسباب برّر بها رافعوها "عدم الانتماء النهائي" الى الوطن. فعاش هؤلاء تجربة التشكيك بمشروعية الوطن الناشئ وغربة وطنية وإنشداداً مستداماً نوستالجياً الى كيان يتخطى حدود لبنان. وكانت إشكالية مواجهة التنافذ بين الاقليم والداخل مولدّاً للإضطراب السياسي الداخلي المستدام ولتنامي نزعات "الإنعزال" و"الانكفاء عن التفاعل مع المحيط الاقليمي" والميل الى رفض كل ما يربط لبنان بمحيطه الاقليمي والعربي. 

وإذا كان إتفاق الطائف قد حسم في مقدمة الدستور هاتين الاشكاليتين، فأكّد على نهائية الكيان اللبناني من جهة، وعلى هوية لبنان العربية، من جهة أخرى، فإن الشهابية قد قاربت هاتين الاشكاليتين، قبل الطائف، ومنذ ما يزيد على الخمسة عقود، بطريقة واقعية وأعطت نموذجاً يحتذى في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ لبنان، حيث يبحث اللبنانيون عن "رئيس منقذ". وإذا كان إنتمائي الى الشهابية عاطفياً في زمن المراهقة  دفعني الى البحث دوماً عن "فوأد شهاب ما" لحكم لبنان فهو معقلن ويقيني في زمن النضج وفي هذه المرحلة المصيرية من تاريخ لبنان: إختاروا "قديساً" يشبه قديس جدي وجدتي لحكم لبنان.

 

[1] نسبة الى بلدة غزير في فتوح كسروان.

[2] هي قطعة الأرض التي تزرع ولها عائدات ومحاصيل. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها