السبت 2021/05/08

آخر تحديث: 16:22 (بيروت)

فرنسا وقوى "17 تشرين": انفتاح فاعتراف بحكومة بديلة؟

السبت 2021/05/08
فرنسا وقوى "17 تشرين": انفتاح فاعتراف بحكومة بديلة؟
يبدو لبنان بمثابة "ضاحية" جنوبية ــ شرقية لفرنسا (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease

من باريس، وفي زمن العولمة، يبدو لبنان بمثابة "ضاحية" جنوبية ــ شرقية لفرنسا، في ما وراء البحر الأبيض المتوسط. ضاحية بعيدة. متعبة. مملة ربما. مع أنها قريبة ومفيدة. هي تدرك أن تلاشي الدولة في لبنان لن يعني زوال "الضاحية". بل ستصبح هذه "الضاحية" متهالكة أكثر فأكثر. أي سيكون العبء مضاعفاً عليها.

إنقاذ السفينة
منذ "مؤتمر سيدر" عام 2018، سعت الديبلوماسية الفرنسية، بلا كلل، من أجل تجنب انهيار النظام الاقتصادي والمالي وإفلاس الدولة في لبنان. المتلازمة الثابتة التي ظل الديبلوماسيون الفرنسيون يرددونها على مسامع الحكام اللبنانيين: نفذوا الإصلاحات بسرعة، لأن ليس لديكم ترف الوقت. تجاهل الحكام التحذيرات المتتالية. فكانت النتيجة تسارع وتيرة الانهيار. هنا، حاولت فرنسا إنقاذ "السفينة" التي تغرق، قبل فوات الأوان. لكن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي. فتعقيدات لبنان وتداخل المشكلة اللبنانية مع المشكلة الإقليمية، كلها عوامل حالت دون فعالية "سترة النجاة" الفرنسية.

رغم ذلك، تواصل الديبلوماسية الفرنسية تحركها باتجاه لبنان. وارتأت هذه المرة أن يتخذ هذا التحرك بُعْداً جديداً. يتعلق الأمر برفع مستوى تعاملها مع قوى المجتمع المدني وقوى سياسية معارضة، تقليدية وجديدة، بحسب ما دلّ اجتماع وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، يوم الخميس 6 أيار 2021، في "قصر الصنوبر" في بيروت، مع ممثلين عن تلك القوى.

الطموح الأبعد
هناك من يظن أن الالتفاتة الفرنسية هذه انفعالية؛ انتقامية من قوى حاكمة أفشلت مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون الإنقاذية. كما أن بعض المراقبين الجيوسياسيين الفرنسيين يرى فيها "تعويلاً على معارضة باهتة". يقولون ذلك لا للنيل من القوى المعارضة أو للتقليل من قيمتها. بل لتشخيص الواقع المتمثل بضعف هذه المعارضات ومحدودية تأثيرها على اللعبة السياسية، حالياً.

في المضمون، أقدمت الديبلوماسية الفرنسية على هذه الخطوة تحت عنوان البديل والتغيير السياسي في لبنان. إنها إشارة واضحة إلى أن الفرنسيين باتوا يعترفون بالقوى التقليدية المشاركة في "انتفاضة 17 تشرين"،  والقوى الجديدة المنبثقة منها، بوصفها بديلاً سياسياً محتملاً وجدياً. بهذا المنحى، لم تعد فرنسا تكتفي بدعوة القوى الحاكمة إلى تطبيق الإصلاحات. بل بات لديها طموح أبعد من ذلك، يتماهى مع طموح جزء كبير من المواطنين اللبنانيين: تحقيق التغيير السياسي. وهذا يعني بكل بساطة استبدال فريق حاكم بآخر. وفي الحالة اللبنانية، إيصال فريق حاكم جديد إلى الحكم والسلطة والإدارة، والانتقال من نظام زبائني غنائمي يعمّه الفساد والنهب، إلى دولة القانون والمؤسسات.

لكن التجربة أظهرت حتى الآن، أن القاسم المشترك بين قوى الانتفاضة والديبلوماسية الفرنسية، يتمثل في العجز عن ترجمة أي طموح تغييري بشكل ملموس على أرض الواقع. ذلك أن انتفاضة "17 تشرين" لم تنجز ما أنجزته الثورة الفرنسية عام 1789، أو الثورة الروسية عام 1917، ولا حتى الثورة التونسية عام 2011. في المقابل، لم تنجح الدينامية الفرنسية، منذ "مؤتمر سيدر" وصولاً إلى "تمرد" إيمانويل ماكرون في شارع الجميزة، بعد تفجير المرفأ يوم 4 آب 2020، في انتزاع أي تنازل من النظام اللبناني.

تجربة لا تضرّ!
الإشارة إلى هذه المحدوديات ضرورية قبل التعمّق في تحليل أبعاد لقاء لودريان مع قوى "17 تشرين". فهذا الانفتاح الفرنسي هو مؤشر لسلوك ديبلوماسي براغماتي، لكنه سيكون قابلاً للتطور الإيجابي أو السلبي بحسب متغيرات الظروف والواقع السياسي اللبناني. ويمكن على الأقل وضعه في خانة التجريب. بمعنى أن فرنسا تقوم بتجربة الآن، قد لا تكون مثمرة لكنها غير مضرّة. وطالما أن الإصلاح من داخل النظام مستحيل، وتغيير النظام حالياً مستحيل، فما الذي يمنع من الخوض في تجربة الانفتاح على القوى الاحتجاجية؟ أساساً، لا يمكن لفرنسا أن تبالغ في تقدير أبعاد هذا الانفتاح، من دون التمييز بين دلالاته المختلفة على المدى القصير والمتوسط والطويل.

على المدى القصير، هذه الالتفاتة تعني أن فرنسا أطلقت رسمياً وفعلياً سياسة اليد الممدودة للقوى الحيّة الصاعدة في لبنان. يمثل ذلك دعماً معنوياً لا يستهان به للمشروع التغييري. هي بداية علاقة لا بد منها للمستقبل، في حال نجحت القوى الاحتجاجية في تسجيل خرق سياسي من شأنه زعزعة بنية النظام أكثر فأكثر. يتعلق الأمر هنا بحسابات على المدى المتوسط. أي مرحلة الانتخابات التشريعية إنْ حصلت في موعدها عام 2022، وما بعدها. فيمكن لسياسة اليد الممدودة أن تتطور إلى نوع من الشراكة الوازنة في الحياة السياسية. لن يكون التغيير السياسي قد نضج بعد. لكن سيكون هناك متحدث سياسي جديد لفرنسا وللدول الأخرى في لبنان. متحدث ذات صدقية ومشروعية. مرشح جدي لاستلام الحكم. للشراكة الفرنسية معه، بوصفه قوة برلمانية (محتملة)، نتائج يحددها الأداء لاحقاً وتحددها أيضاً تطورات الميدان، الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.

وهنا، يتعلق الأمر بحسابات على المدى الطويل.

في حال أحرزت القوى الجديد تقدماً سياسياً وباتت تشكل قوة برلمانية وازنة، أو قوة برلمانية محدودة بموازاة عاميات شعبية مؤازرة لها، فيمكن أن تنتقل الديبلوماسية الفرنسية من سياسة اليد الممدودة والشراكة الفعالة إلى حد الاعتراف بالطابع التمثيلي للقوى الجديدة، وفتح الباب بالتالي أمام سابقة نزع الاعتراف بالحكومة الرسمية، بوصفها حكومة رجعية ومحافظة تعمل لخدمة المافيات، واحتمال الاعتراف بحكومة معارضة جديدة. لا شيء يمنع من حصول سيناريو كهذا، خصوصاً بعد تحول لبنان إلى دولة فاشلة. بمعنى آخر، أنْ يتطور الوضع في لبنان إلى مرحلة تتمكن فيها القوى الاحتجاجية من تشكيل حكومة انتقالية وأن تنال اعتراف الدول الكبرى، فهذا سيكون مشروطاً بانهيار النظام السياسي بالكامل وتفكك الشبكات الزبائنية للقوى الحاكمة.

حزب الله والأوليغارشيا
لكن لا مؤشرات واضحة وأكيدة الآن في هذا الصدد. خصوصاً أن حزب الله، بوصفه القوة الرافعة لهذا النظام اليوم، لا يزال يقف على أرضية متينة. في المقابل، لم تكشف الأوليغارشية والمصارف عن كل أوراقها بعد، والتي يمكن أن تستخدمها في المرحلة المقبلة، بما يلحق المزيد من الضرر والانقسام في المجتمع اللبناني. لذا، لا يمكن التنبؤ بأن إفلاس الدولة سيؤدي إلى زوال القوى السياسية التقليدية، وفقدان قوى الأمر الواقع، القديمة والجديدة الناشئة، لهوامش التحرك والمناورة.

بمعنى آخر، ستكون الدولة الفاشلة وحالة الفوضى ملائمة لها أيضاً، وغير ملائمة بالمطلق للقوى الجديدة التي تتطلع إلى بناء دولة قوية. وعندها، ماذا ستفعل الديبلوماسية الفرنسية إذا قوبلت بكل أنواع الابتزاز من قبل قوى حاكمة ومهيمنة، لا رادع أخلاقي لها؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها