الأربعاء 2021/02/24

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

كلمات في مومياءات السياسة اللبنانيين

الأربعاء 2021/02/24
كلمات في مومياءات السياسة اللبنانيين
يكرِّرون كلامهم الأجوف في أي وقت ومناسبة (الأرشيف، دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease
ماذا نسمع ونفهم حين يتكلم أهل السياسة اللبنانيون اليوم وفي أمس قريب أو بعيد؟

لا شيء على الأرجح، سوى غطيطٍ من الكلام أو الهذر الذي يخرج من أفواه منوَّمين، أو مومياءات.

نعم السياسيون اللبنانيون مومياءات كلام. والأرجح أنهم يعلمون ذلك ويتقصّدونه ويحترفونه، مدركين أن من ضرورات السياسة أن يكونوا مومياءات، وأن يتكلموا كمومياءات: يعيدون ويكررون غطيط الكلام، أو كلام الغطيط الذي تلفظه أفواههم بوقاحة تأصلت فيهم على دروب احترافهم السياسة.

وكأنما السياسة في لبنان وقاحة تعريفاً.

والسياسيون اللبنانيون ما كانوا ليفعلوا ذلك، ويتكلموا على هذا النحو، إلا لأنهم مدركون أننا سادرون، أو متفقون ومتواطئون معهم على أن هذه هي حال السياسة، ولا يمكن أن تكون إلا على هذه الحال: غطيط خالص وهذر مومياءات.

صحيح أن كثيرين منا يتذمرون منهم ومن غطيطهم الكلامي. لكنهم موقنون أن المتذمرين سقطُ متاعٍ، وتذمراتهم زبدٌ تبدّده الرياح.

وإلا كيف ولماذا يصرُّون ويواظبون ويستمرون على ما يفعلونه ويكرِّرون كلامهم الأجوف في أي وقت ومناسبة، كأن شيئاً لم يكن، مهما حدث من خراب في هذه البلاد، ومهما قيل لهم أنهم كريهون ومكروهون، وإنهم ما عادوا قابلين للاحتمال؟!

هم بالتأكيد يسمعون ما يُقال عنهم في كل يوم وساعة. لكنهم موقنون أن المتذمرين منهم يدركون أنهم يتوجهون بتذمراتهم إلى مومياءات، وأن هذه التذمرات موميائية بدورها. وإلا لكان حدث شيء ما بعد هذه الأطنان من التذمر اليومي، أقله الذي تبثه الشاشات التلفزيونية في كل مساء.

لكن هناك ما لا يحصى من الحوادث الجسيمة والوقائع التي حدثت وتحدث في كل يوم وساعة. وكل حادثة منها كفيلة بأن تكون أشبه بزلزال، لكنها تعبر وتنطوي كأن شيئاً لم يحدث، ويستمر غطيط الكلام وهذره، وكذلك تستمر التذمرات، سيولاً من الزبد الذي يتبدد هباءً.

لكن في الحقيقة هناك من يؤذيه زبد التذمر وهبائه، فيعمدُ إلى التهديد والوعيد، ثم إلى القتل أو الإعدام الغامض في وضح النهار.

ثم يعودون ونعود مثلهم إلى ذلك العهد واليقين: السياسة ليست عمل أشخاص، بل حرفة مومياءات موقنةٍ أننا مثلها، نعيش ونفكر ونتكلم كمومياءات، وقبِلنا ونقبل أن لا سياسة ولا سياسيين إلا اذا كان أهلها ومحترفوها لا أشخاص فيهم. ومن ضرورات السياسة أن يتحول الشخص إلى مومياء.
*****

لكن ماذا نعني حين نقول إن السياسي في لبنان ليس شخصاً أو لا شخص فيه، أو تحوّل إلى مومياء؟

نستعين هنا بالروائي ميلان كونديرا لشرح غياب الشخص في السياسي، أو ماهية الشخص الغائب فيه، ليتحول إلى مومياء. يقول كونديرا في روايته "خفة الوجود غير القابلة للاحتمال" إن رجل السياسة يختار طوعاً أن يجعل الجمهور حَكَماً عليه. ويؤمن إيماناً صريحاً بأن عليه أن يَكسب ودّ الجمهور. وهناك احتمال أن ينفر منه الجمهور ويعاديه، وأن يحثّه أكثر فأكثر على القيام بمآثر. أما الطبيب مثلاً، فعلى خلاف السياسي، لا يحكم عليه سوى مرضاه المحددين، أولئك الذين يعرفهم ويعرفونه، صراحة وبلا وسائط، وبين جدران أربعة. والطبيب في مواجهة عيون مرضاه الذين يحكمون عليه، يمكنه أن يرد مباشرة عليهم، فيوضح رأيه مدافعاً عن نفسه.

لكن رجل السياسة يجد أنه محط أنظار كثرة لجبة من الناس الغُفل أو المجهولين، الذين لا عدَّ لهم ولا يستطيع إحصاءهم، ولا هو يعرفهم، وهم غالباً ما لا يعرفونه إلا معرفة صورية أو كصورة تتكلم عبر الشاشات لجمهور غائب ومجهول.

ويرى كونديرا أن هذه المعادلة يُفترض أن تسبّب للسياسي - إذا كان شخصاً عادياً عاقلاً، أو ترك الدهر فيه بقيّة شخص، يحسّ ويشعر ويفكّر مثل بني البشر العاديين - ذعراً هائلاً حين يدرك أن مئات ألوف العيون المجهولة تحدق فيه وتستمع إلى كلامه، فيصاب بالدوار. وذلك الذعر الهائل الذي يصيب الشخصَ السياسي، يفترضُ كونديرا أنه يشبه ذعر شخصٍ ما حين تندفع حشود هائلة، كما في كابوس، لتنزع عنه ثيابه في الشارع، أو في مكان ما من العلانية العامة.

وفي شرحه، أو في كنايته المجازية هذه، يحاول كونديرا أن يفسّر حال السياسة والسياسيين في أنظمة السلطان التوتاليتاري (الكلياني) الشيوعية الراحلة. أي غياب الشخص الشخصيّ غياباً كليا وشاملاً في بشر وسياسيي تلك الأنظمة، وتحولهم إلى تماسيح أو مومياءات تسعى وتعيش وتتكلم. فلا السياسي المسلطة عليه عيون الجمهور يشعر بشيء من الذعر أو الدوار، بل يشعر بدعة المومياء الأبدية. ولا الجمهور نفسه يستطيع أن يشعر بغير سلطان المومياء الأبدية عليه.

ربما وحدهم من لديهم شخص شخصي في كيانهم الإنساني المهدم، يصيبهم شيء من الخوف والذعر اللذين عليهم كتمانهما في أنفسهم المضطربة التائهة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها