السبت 2021/11/13

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

واشنطن تدعم دولة لبنانية "موازية" لدولة حزب الله

السبت 2021/11/13
واشنطن تدعم دولة لبنانية "موازية" لدولة حزب الله
تعمل واشنطن بوتيرة ولو بطيئة على إعادة ترتيب أوراق الدولة اللبنانية (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

ثمة تباين أميركي-سعودي واضح في لبنان. لا يتعلق الأمر بأهداف كل من البلدين بشأن الملف اللبناني، بقدر ما يتعلق باستراتيجية تحقيق هذه الأهداف.

ففيما تتخذ السعودية سلسلة خطوات عقابية تندرج في خانة مواجهة حزب الله والضغط عليه، تتصرف الولايات المتحدة على نحو يُبْطِل مفعول الهجوم السعودي أو يحدّ من نتائجه. يتجسد ذلك في الرفض الأميركي (والغربي) لاستقالة حكومة نجيب ميقاتي، على خلفية الأزمة التي تسببت بها تصريحات وزير الإعلام اللبناني، جورج قرداحي، قبل توليه منصبه. ويتمظهر ذلك أيضاً في الدعم المستمر لمسار ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وعملية التفاوض بين حكومة ميقاتي وصندوق النقد الدولي، علماً بأنها حكومة يهيمن عليها حزب الله مع حلفائه ضمن الأكثرية النيابية. فهل هذا يعني أن واشنطن تفتقد لاستراتيجية مواجهة مع الحزب في لبنان أم أن استراتيجيتها مغايرة لتلك التي تتبعها الرياض؟

التقاطع والتباين بين واشنطن والرياض
تجدر الإشارة أولاً إلى أن مواقف البلدين تتقاطع على تحقيق أهداف مشتركة. وهي تتمثل في حلّ المليشيات وإعادة بسط سيادة وسلطة الدولة على كامل أرضها وعلى حدودها الخارجية واحتكارها لقرار الحرب السلم، وإعادة النهوض الاقتصادي بمساعدة المانحين الدوليين.. لكن طريقة التعاطي الأميركية تختلف عن تلك السعودية. فتصنيف حزب الله منظمة "إرهابية"، ومعاداة الحزب للسياسة الأميركية، ووجود حالة من العداء لأميركا في لبنان، كلها عوامل لم تدفع واشنطن إلى مقاطعة الدولة اللبنانية. على العكس، تواصل الدبلوماسية الأميركية تعاونها مع مؤسسات الدولة على الرغم من هشاشتها، مع حرصها طبعاً على تجنب استفادة حزب الله والفاسدين من هذا التعاون. وعندما يزداد هجوم البعض عليها في لبنان، لا تنفعل ولا تنسحب ولا تقطع العلاقات. بل تواصل وربما تضاعف عملها المتعدد الأبعاد، والذي يستهدف دعم مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات والشركات والأفراد.

صحيح أن البعض يرى في النشاط الأميركي تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية للبنان. لكنه يشكل أمراً واقعاً في لبنان، شأنه شأن أي نشاط آخر تقوم به الدبلوماسيات الغربية أو الدبلوماسية الروسية أو الصينية أو الإيرانية. وهذا النشاط ليس عديم الجدوى.

"سياسة الخطوات الصغيرة"
تدرك واشنطن تمام الإدراك أن إعادة لبنان بشكل كامل إلى الفلك الغربي والأميركي هي مهمة مستحيلة في الظروف الراهنة. وتلاحظ أيضاً أن موازين القوى المحلية لا تسمح الآن بإعادة بناء دولة قوية، دولة القانون والمؤسسات. لكن هذه الاستحالة الظرفية لا تقود إلى الاستسلام، ولا إلى تخلي الأميركيين ومعهم الأوروبيين عن لبنان. بين الهزيمة والانتصار ثمة هامش تَحَرُّك لا ضير فيه. ثمة مجال لـ"سياسة الخطوات الصغيرة"، في استعارة لمقولة هنري كيسنجر، الشهيرة. وكأن واشنطن تعمل بوتيرة ولو بطيئة على إعادة ترتيب أوراق الدولة اللبنانية، ورقة تلو الأخرى.

الجيش كدعامة للدولة
البداية مع مؤسسة الجيش اللبناني. صحيح أن تقديم مساعدات مالية طارئة للجيش بات يمثل اليوم أولوية أميركية في ظل الانهيار الحاصل. لكن الدعم الأميركي الأساسي والثابت يتمحور حول بناء وتطوير القدرات القتالية والدفاعية لهذا الجيش. على الرغم من كل الصعوبات ونقاط الضعف وعواقب البنية الطائفية للبلد والجيش، تراهن واشنطن على استمرار هذه المؤسسة العسكرية في الاضطلاع بمهامها، لحماية الحدود وضبط الأمن في الداخل ومكافحة الإرهاب. الحفاظ على الجيش يعني الحفاظ على الدعامة التي لا يمكن الاستغناء عنها في مسار إعادة بناء الدولة اللبنانية واستعادة سيادتها وسلطتها. لذلك، تواصل الإدارة الأميركية تقديم مساعدات مالية للجيش، على عكس الرياض التي جمّدت عام 2016 مساعدات مالية له بقيمة 3 مليارات دولار أميركي، كان من المفترض أن تخصص لشراء أسلحة فرنسية.

أهمية استقلالية القضاء ونزاهته
الدعامة الثانية تتمثل في القضاء اللبناني. ومن المعروف أن عدم استقلالية ونزاهة هذا القضاء أدت إلى تكريس معادلة الإفلات من العقاب، أو بت النزاعات بطرق غير عادلة. طبعاً، لن تكون واشنطن ملكية أكثر من الملك. لكن نزعة تدخلات السياسيين وأصحاب المصالح الخاصة، النافذين، في شؤون القضاء باتت صارخة ووقحة إلى درجة لم تعد تُحتَمل. وأي مستثمر أجنبي لن يوظف دولاراً واحداً في لبنان من دون وجود مؤسسة قضائية مستقلة ونزيهة. وأهم اختبار يخضع له القضاء اللبناني يتمثل اليوم في التحقيق بجريمة تفجير مرفأ بيروت. فما يقوم به القاضي، طارق البيطار، يجسد منطق المساءلة والمحاسبة في وجه منطق الإفلات من العقاب. صحيح أنه قد لا يتمكن من معاقبة كل الذين يستحقون العقاب. لكنه يواجه. وهذه المواجهة لا تهدف فقط إلى كشف الحقيقة بشأن تلك الجريمة، بل تندرج أيضاً في خانة خوض معركة الحفاظ على إحدى المقومات الأساسية لوجود الدولة، أي السلطة القضائية المستقلة. يمكن للبعض أن يفسر التأييد الأميركي لعمل القاضي بيطار بوصفه موقفاً سياسياً موجهاً ضد حزب الله. لكن لا يمكن لعاقل ألا يدعم جهود قاضٍ مُصمّم على محاسبة المسؤولين عن إهمال ساهم، مع عوامل أخرى، في حصول هذا الانفجار. ليس من أجل العدالة في هذه القضية وحسب. بل من أجل وضع حد لاعتيادية الإهمال والفساد لدى موظفي الإدارات العامة وكل من يتعاطى الشأن العام في لبنان. وهذا التغيير إنْ حصل، سيكون خطوة على طريق إعادة بناء الدولة.

حد أدنى من الكهرباء
من خلال مبادراتها حول توفير الغاز والكهرباء من مصر والأردن، تسعى واشنطن إلى تجنب الانحلال التام لدور الدولة. طبعاً، هذا الحل الذي يتم تطبيقه بدفع أميركي ليس مثالياً. والهدف منه لا يتمثل فقط في احتواء دور حزب الله في تأمين المحروقات من إيران. بل أيضاً في تجنب حالة الفوضى التي يمكن أن يشهدها قطاع الطاقة، نتيجة تعطيل دور شركة كهرباء لبنان بشكل شبه كامل. الحفاظ على حد أدنى من خدمة عامة في مجال الطاقة يعني الحفاظ على شيء من وظيفة الدولة، بانتظار إصلاحات مقبلة في هذا الشأن.

أبعد من دعم المجتمع المدني..
بموازاة كل ذلك، تستمر الولايات المتحدة الأميركية، شأنها شأن دول أوروبية عدة، في تفعيل العلاقة المباشرة مع المجتمع المدني اللبناني. ثمة دبلوماسية عامة أميركية فاعلة تهدف من جهة إلى بناء العلاقات والصداقات وكسب قلوب وعقول عدد من اللبنانيين. لكن تركيز الجهود الأميركية (والغربية عموماً) على دعم المبادرات المهنية والإنتاجية المتنوعة في جميع المناطق، يساهم في بناء أسس لتنمية اقتصادية واجتماعية ولو على نطاق صغير. لكن من شأن هذه المبادرات أن تضمن من جهة، صمود الأفراد والجماعات، وأن تنمّي لديهم من جهة أخرى، إرادة العيش معاً وحماية المصير المشترك. وهذا شرط أساسي لقيام أو لإعادة قيامة الدولة اللبنانية.

كل ذلك يحصل بعدما نجح حزب الله في بناء "دويلته" القوية داخل الدولة الهشة. والدبلوماسية الأميركية ليست ساذجة. لذلك هي لا تشترط زوال الدويلة قبل بدء دعم عملية إعادة بناء الدولة. بل إنها تبدأ الورشة بشكل موازٍ. وهي تدرك أن ديناميات الحفاظ على عناصر ومقومات الدولة اللبنانية اليوم، لا تحول دون تحللها الكامل وحسب، بل تمهد لإعادة قيامتها يوماً ما بموازاة "دويلة" حزب الله.. أو على أنقاضها؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها