لقد آن أوان الدبلوماسية الاقتصادية والسياحية الإيرانية، إذاً. من غير أن يعني ذلك التخلي نهائياً عن دبلوماسية المواجهة. الأولوية الآن للاستثمارات وتوظيف "الانتصارات" وتفوّق حزب الله في لبنان، بما يخدم مصالح طهران الاقتصادية. هذا هو مغزى الرسائل التي وجهها عبد اللهيان، من وزارة الخارجية اللبنانية، يوم الخميس 7 تشرين الأول. فالوزير الإيراني قال إنه توافق مع نظيره عبدالله بو حبيب "حول انعقاد اللجنة الاقتصادية المشتركة بين البلدين". وأضاف: "ملف العلاقات التجارية والسياحية والاقتصادية كان وما يزال مفتوحاً أمام الجانبين".
شرط الاستقرار
صحيح أن الأيام المقبلة تُظْهِر ما إذا كان هذا الكلام الإيراني يبقى حبراً على ورق، أم يُترجم إلى واقع. لكن مجرد أنْ تنوي إيران إعطاء قوة دفع للاستثمار الاقتصادي والسياحي في علاقاتها مع لبنان، فهذا يفترض أنها تريد الحفاظ على وضع مستقر فيه، باعتبار أن الاستقرار الدائم هو الشرط الأول لأي بيئة استثمارية مجدية. وأنْ يكون الاستقرار أولوية إيرانية اليوم، فهذا يعني أنها تريد تلبية أمرين اثنين من لبنان، أو بواسطة لبنان، ويجب أن ينطويا على شرطين:
رسالة تهدئة إلى السعودية أولاً: للحفاظ على السلم الأهلي اللبناني، وتجنّب أي توتر سني- شيعي خطير في المستقبل. طبعاً، لإيران مصلحة في الحفاظ على "الستاتيكو" السياسي الذي يتسم بغلبة حزب الله في نظام تقاسم السلطة بين الطوائف اللبنانية. لكن تأكيد عبد اللهيان، في مؤتمره الصحافي يوم الجمعة، على أن "المحادثات الإيرانية - السعودية تسير في الاتجاه الصحيح"، وأن "دور إيران والسعودية بالغ الأهمية على صعيد إرساء الاستقرار في المنطقة"، وقوله بعد لقائه رئيس مجلس النواب، نبيه بري، يوم الخميس: "قيّمنا إيجاباً استمرار وتيرة المفاوضات الإيرانية-السعودية"، لكن هذا كله يعبّر على ما يبدو عن رسالة تهدئة، قصدت طهران توجيهها إلى الرياض من بيروت.
هدنة دائمة في جنوب لبنان ثانياً: تجميد حالة الحرب مع إسرائيل، طالما أن إنهاءها غير وارد كمصطلح في قاموس "البروبغندا" الإعلامية للجمهورية الإسلامية. طبعاً، لن توقف إيران تسليح حزب الله. ولن تعدّل خطابها المعادي للكيان الصهيوني. لكن أي استثمار إيراني في الاقتصاد والبنى التحتية اللبنانية وفي مجال التبادل السياحي، يتطلب إبقاء الجبهة الجنوبية مستقرة. ويتعلق الأمر إذاً بالحاجة إلى هدنة دائمة في جنوب لبنان. وهذه الحاجة الإيرانية للاستقرار من المُفْتَرض أن تُقابلها إسرائيل بإيجابية ولو ضمنية. وقد تستخدم طهران سلوكها الجديد المحتمل في لبنان ورقة للمقايضة مع الولايات المتحدة الأميركية، التي من المرجح أن تحلل بعمق رسائل عبد اللهيان، الموجهة من بيروت.
تنافس مقبول وعقلاني؟
في المقابل، لا يمكن تجاهل أن إطلاق دينامية جديدة للدبلوماسية الاقتصادية الإيرانية سوف يزيد من حدة التنافس الاقتصادي بين الأقطاب الخارجيين الموجودين أيضاً في لبنان. ولدى هذا البلد، بعد الانهيار، حاجة ماسة إلى الاستثمارات الأجنبية لإعادة النهوض الاقتصادي.
هنا، قد لا يرفض الغربيون بالمطلق أن تتمتع إيران بنفوذ اقتصادي في شرق البحر المتوسط، شأنها شأن غيرها من الأقطاب، طالما أن قواعد اللعبة في هذا المجال، لا تمثل تهديداً استراتيجياً لمصالح الغرب ولأمن إسرائيل. وبما أن سلوك جديد كهذا يرتكز بحكم الواقع على حسابات عقلانية، يفرضها منطق الربح والخسارة في الاقتصاد.
الغرب يبحث عن حلول إقليمية
فرضية كهذه لا تتناقض مع ما يمكن اعتباره اتجاهاً غربياً جديداً في التعاطي مع منطقة الشرق الأوسط. يتعلق الأمر بتخلي الغربيين، والأميركيين تحديداً، عن منطق التدخل الدولي المباشر والنافر في شؤون هذه المنطقة، لصالح تعزيز دور اللاعبين الإقليميين والحلول الإقليمية إذا أمكن، من خلال إضفاء طابع إقليمي (Regionalization) على إدارة الأزمات والصراعات فيها. وإذا تأكد هذا الاتجاه وتكرّس، بالتزامن مع نجاح المفاوضات الأميركية- الإيرانية بشأن الاتفاق النووي، لن تكون إيران لاعباً منبوذاً في الشرق الأوسط. وفي إطار هذا السياق يُمْكِن إدراج كلام عبد اللهيان عن "خروج الغرباء من هذه المنطقة"، في المؤتمر الصحافي المشترك مع بو حبيب، وقوله بعد لقائه بري "إن كافة الملفات الإقليمية ينبغي أن تحل على أيدي أهل المنطقة بأنفسهم".
ومضمون هذه التصريحات لا يعكس مطالب أو شروط إيرانية، بقدر ما يكشف عن التغيير الحاصل في المنطقة. وهو تغيير اتضحت معالمه مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان (...)، والذي يمكن أن تليه انسحابات أخرى مماثلة من العراق وسوريا. ويزداد وضوحاً مع تفعيل وإعادة تفعيل التواصل بين اللاعبين الإقليميين، مثل مصر والأردن والعراق ونظام بشار الأسد، وصولاً ربما إلى إعادة إحياء ما بقي من "النظام العربي التقليدي" السابق. ومع كل ما يعنيه ذلك من استسلام غربي للأنظمة الاستبدادية في المنطقة، بعدما فشلت نظرية التغيير الديموقراطي من الخارج وبالقوة، العزيزة على قلب "المحافظين الجدد" الأميركيين.
استنزاف إيران؟
لن يكون أمام إيران من خيار سوى التأقلم مع المسار الجديد المتمثل في إضفاء طابع إقليمي على إدارة شؤون المنطقة ومشاكلها. فتُبْرِم التسويات وتعقد التفاهمات هنا وهناك، من لبنان إلى اليمن، مروراً بسوريا والعراق، على قاعدة الخروج من دوامة الأزمات المفتوحة والدخول في مرحلة "تقاسم قالب الحلوى". وقد تفعل ذلك مضطرةً، ومع تقديم تنازلات، إذا كان التوتر مع أذربيجان، هو مقدمة لاستنزافها في منطقة القوقاز. فتُخفّف من درجة التزامها وتدخلها في العالم العربي، وتعدل أولوياتها في لبنان، لكي تتفرغ للتحديات على حدودها الشمالية مع أذربيجان أو حتى لتلك المحتملة على حدودها مع أفغانستان (؟).
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها