الأربعاء 2021/01/20

آخر تحديث: 15:06 (بيروت)

عزل حزب الله وهيمنته: وصْفتان لاحتضار لبنان

الأربعاء 2021/01/20
عزل حزب الله وهيمنته: وصْفتان لاحتضار لبنان
المأزق هو في عدم انفتاح حزب الله على حوار بنّاء (الأرشيف، مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

لن ينسى العالم دونالد ترامب. طيّ صفحته في أميركا ستستغرق وقتاً. تجاوز الصدمة في أوروبا يحتاج لفترة من الزمن. أما لبنان، فسيكون عليه الانتظار وتحمّل مشقات كثيرة قبل انتهاء "كابوس ترامب". هذا الكابوس، لن يكون خلفه، جو بايدن، مستعجلاً لتبديده. ليس لأنه غير مبالٍ، بل لأن سلّم الأولويات يفرض عليه التصدي لمسائل أكثر إلحاحاً.

على أي حال، هذا الكابوس ليس من صنع الولاية الترامبية وحدها. فلحكّام لبنان اليد الطولى في تكوّنه. كل ما فعله ترامب هو تشديد الضغط الأميركي على لبنان، مستفيداً من ثغرات ونقاط ضعف وحالات خلل، هي من صنع لبناني داخلي. وفي السياسة، كان لهذا الضغط المكثف عنوان واحد، يتمثل في عدم تمثيل حزب الله في الحكومة. أي عزله.

إشكالية الحكومة
هكذا، اتخذ الحزب من الدينامية الترامبية ذريعة لإدراج أي محاولة إصلاحية جذرية وأي حركة احتجاجية ضد النظام الزبائني الفاسد، في خانة المؤامرة الأميركية. فتصرف على هذا الأساس، وقرر عدم التنازل عن حصته في الحكومة. هذا الصراع يستدعي التساؤل بكل واقعية حول ما إذا كان خروج حزب الله من الحكومة هو مفتاح الحل في لبنان، كما يعتقد كثيرون؟ وحول ما إذا كان تمثيله فيها مع بقية العصبة الحاكمة مدعاة تفاؤل لمستقبل البلد وسكانه؟

الإجابة على الإشكالية الأولى تتطلب الدخول إلى عقل الإدارة الأميركية، بغض النظر عن هوية الرئيس. لا بد من معرفة ما إذا كانت واشنطن ستكتفي بخروج حزب الله من الحكومة لفتح صفحة جديدة مع لبنان؟ أم أنها ستتصرف على طريقة "خذ وطالب"، حتى في ظل إدارة بايدن؟ بعبارة أخرى، هل سيقرر الأميركيون تجميد أو تأجيل صراعهم الشامل مع هذا التنظيم اللبناني، حليف طهران، في حال حصلوا على مكسبهم المتعلق بالحكومة؟ سؤال لن تكون الإجابة عليه إلا من باب التكهنات. لكن أياً يكن الجواب الذي ستحمله الأيام المقبلة، يبقى الأهم والأخطر يتمثل في عواقب هذا الصراع المفتوح. فماذا سينتج عنه سوى تكريس لبنان بوصفه حلبة مصارعة، أو صندوق بريد، أو ورقة يتم التفاوض عليها، أو ساحة لتصفية الحسابات؟ وكل ذلك على حساب إدارة الأزمة المتعددة الأبعاد التي تضرب لبنان، وتهدد حياة سكانه ومصيرهم.

فرضية "إخراج" حزب الله من الحكومة، من دون أن يكون فعلاً راضياً بذلك، لن تنهي المشكلة. دينامية الصراع تفترض وجود مطالب ومطالب نقيضة. سردية وسردية معاكسة. هجمات وهجمات مضادة. الاستقطاب الحاد سيطغى على المشهد السياسي اللبناني حكماً. بهذا المنحى، لن يكون عزل حزب الله، في الشروط والظروف الراهنة وفي ظل ميزان القوى الحالي، سوى وصفة لاستمرار الأزمات، من تعطيل مؤسسات الدولة والدستور إلى تأجيل حل الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية. والحالة التي سيعيشها لبنان سيصحّ وصفها عندئذٍ بالمأساة التي تنطوي على مشاكل يستعصي حلّها، لا سيما إذا تحول البلد نهائياً إلى دولة فاشلة. إلا إذا قرر حزب الله التصرف وفق مبدأ "نكران الذات"، فيقدّم بالتالي التنازلات طوعاً، مع تسهيله لعمل حكومة مستقلة. لم يصدر عن "الضاحية" أي مؤشر في هذا الاتجاه. على العكس، منذ المبادرة الفرنسية ورحلة مصطفى أديب القصيرة، يتمسك الحزب بتمثيله في الحكومة، معتبراً أن عكس ذلك يعني انقلاباً على الانتخابات النيابية سنة 2018. لكن، ماذا يعني إصراره على المشاركة في السلطة التنفيذية عملياً؟

فائض القوة
في الواقع، يتعلق الأمر هنا بمفارقة. فالمشكلة اللبنانية لن تنتهي في ظل وجود حزب الله داخل الحكومة أيضاً، خصوصاً أن تمثيله يتمظهر على شكل هيمنة لا يمكن إنكارها. منذ العام 2008، أي بعد اتفاق الدوحة، راكَمَ هذا الحزب موارد قوة، بما أتاح له التحكّم بكل مفاصل السلطة. حتى عندما لم تكن الأغلبية النيابية في صالحه وحلفائه، كان يتحكم بمسار المجلس النيابي ومصيره. بعد الحصول على تلك الأغلبية، تعززت سيطرة الحزب على البرلمان. أما الحكومة، فكان "الثلث المعطل" أداة سيطرته مع حلفائه عليها. وبعد انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية بإصرار من قبل الحزب، أصبحت رئاسة الجمهورية خاضعة أيضاً لإرادة هذا الحزب في مسائل أساسية ومصيرية، مع إعطاء هامش تحرّك ولو واسع أحياناً للرئيس الماروني "القوي"، في مجالات لا تزعج حليفه الشيعي الأقوى.

قس على ذلك القوة العسكرية للحزب، والتي لا يمكن التقليل من تأثيرها المعنوي، والفعلي "عند الحاجة"، على ميزان القوى المحلي وعلى العلاقات المجتمعية. أحد الأمثلة على ذلك: كان يكفي الحزب إرسال بضعة مئات من الشبان غير المسلحين للإعتداء على آلاف المتظاهرين السلميين في بيروت، لقمع انتفاضة 17 تشرين، الموجهة أساساً ضد نظام الفساد. لولا ذلك التأثير المعنوي لنظرية "فائض القوة"، لما كان نجح شبّانه في إجهاض الانتفاضة عبر إثارة الخوف لدى نسبة كبيرة من الشابات والشباب. وهذا ما ساهم في تراجع التعبئة الشعبية.

عواقب الهيمنة
هيمنة حزب الله على لبنان تتجسد أيضاً في طبيعة النقاش حول السياسة الدفاعية. صحيح أن دوره في المقاومة بعد العام 1990، وصولاً إلى تحرير الجنوب عام 2000، يمنحه رصيداً في تمثيل قضية التحرير وحماية أهل الجنوب الذين قدموا تضحيات وشهداء. لكن ذلك لا يمنحه حق احتكار هذا التمثيل، أو حق التعاطي بطريقة تحول دون جعل التحرير قضية وطنية عابرة للأحزاب وللطوائف وللمناطق. كما أن عدم بذل الحزب أي جهد لبناء إجماع وطني حول كيفية التصدي لتهديدات إسرائيل وأطماعها، وعدم استعداده الجدي للبحث بالطرق المختلفة التي تضمن الدفاع عن لبنان، فضلاً عن تخوينه لكل من يجرؤ على مناقشة الموضوع من خارج الاصطفافات السياسية التقليدية، كلها عوامل إنْ دلّت على شيء، فعلى طغيان منطق القوة والهيمنة.

هنا أيضاً، ينبغي طرح السؤال حول عواقب هيمنة حزب الله. لقد أسّست لحالة من عدم التوازن في نظام تقاسم الطوائف للسلطة في لبنان. ونتج عن ذلك توتراً طائفياً مستمراً، تارةً كامناً وتارةً أخرى ظاهراً. وأعطت ذريعة لمنظومة الأوليغارشيين والسياسيين الذين يجنون أرباحاً هائلة من خلال الفساد في الدولة منذ 30 سنة، لكي يُمْعِنوا في الزبائنية وفي سياسات تحويل الدولة ومواردها إلى غنائم لهم ولأزلامهم. هكذا، نشأ فعلاً تحالف ضمني بينهم وبين حزب الله. وهو ارتكز، كما ذكرت منذ فترة جريدة "لوموند" الفرنسية في إحدى افتتاحياتها، على معادلة سكوت الحزب عن سرقاتهم وفسادهم، مقابل سكوتهم عن تسليحه، وكذلك عن تحكمه بقنوات "نفوذ" في المرفأ والمطار وعلى الحدود مع سوريا (...). بمعنى آخر، تَكَرّس "نظام برأسين"، مناقض لمفهوم الدولة القوية غير الخاضعة لسيطرة مجموعات المصالح الخاصة. وهذا النظام يحارب الإصلاحات البنيوية، الضرورية لفرملة الانهيار، ولا يوفر المناخ الملائم للإفراج عن المساعدات المالية الدولية ولتشجيع الاستثمارات وإعادة النهوض بالاقتصاد؛ ناهيك عن تسببه بتأزم علاقات البلد مع الخارج.

المأزق المزدوج
لا يمكن لحزب الله تجاهل العلاقات السببية كافة للمسار التدميري في لبنان. لا يجوز له بالتالي إنكار قسطه من المسؤولية، كحزب سياسي متجذّر في الكيان اللبناني وكلاعب مؤثر بفعالية كبيرة في صنع القرار الرسمي منذ عام 2008، عما آل إليه الوضع من تآكل للدولة وإفلاسها المالي وعجزها عن الاضطلاع بمهامها البديهية تجاه السكان والمجتمع وتحقيق الصالح العام.

ما يزيد "الطين بلّة" هو عدم انفتاح الحزب على حوار بنّاء من شأنه الخروج من هذا المأزق المزدوج. مأزق الحكم من دون حزب الله ومأزق الحكم معه. والحال أنه إذا كان إقصاء حزب الله مستحيلاً، فإن هيمنته على السلطة السياسية مكلفة، بل باهظة الثمن. كلاهما يسرّع عملية دخول لبنان في حالة الاحتضار.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها