الثلاثاء 2020/09/01

آخر تحديث: 16:08 (بيروت)

في الأسطورة المؤسِسة للبنان الكبير

الثلاثاء 2020/09/01
في الأسطورة المؤسِسة للبنان الكبير
الاندماج الوطني يحتاج إلى بناء وهم تاريخي أعمق بكثير من إعلان قصر الصنوبر (الأرشيف)
increase حجم الخط decrease

في الاول من أيلول 1920، اعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو قيام دولة لبنان الكبير من قصر الصنوبر في بيروت. وبعدها بثلاثة وعشرين عاماً حصل لبنان على استقلاله. وبعدها بسنين ثلاث غادر آخر جندي فرنسي.

إلى يومنا هذا، لا يزال الكثيرون يسخرون من هذه المناسبات الثلاث، ما يخفي في طيّاتها رفضاً مبطّنّاً للكيان اللبناني وتشكيكأً بشرعيته. بطبيعة الحال، لبنان الكبير بنسخة 1920 أو بنسخة 1943 المنقحة هو كيان مصطنع. لكن هذا ليس هو حالنا نحن فقط: أليست الكيانات الأخرى من فلسطين وسوريا والعراق والأردن والسعودية وغيرها كيانات مصطنعة؟ صحيح أن في حينه، رفض الكثير من سكان الدولة الوليدة فكرة الانفصال عن بقية المناطق المتاخمة. ولكن أيضاً، هذا هو حال كل الدول التي تحتاج إلى ترسيم حدودها في لحظة ما، فتتحول معه مناطق كانت مراكز تواصل تجاري وصناعي إلى مناطق حدودية وأطراف ضمن الحدود الجديدة.

أن تُدافع أو أن تدين قيام هذه الدولة، بات أمراً بلا قيمة، طالما أننا كلبنانيين نشعر بهذا الانتماء. بتنا جميعنا أولاد هذه الحدود. بيروتيون في علاقتنا مع العاصمة المركزية، وقرويون في نزوحنا الموسمي إلى الأطراف الأربعة.
وعلى الرغم من خفوت النقاش حول هذه المسألة في السنوات الأخيرة، إلا أن استقلال لبنان بقي إشكالية كامنة، ليس فقط عند عدد من اللبنانيين، بل كذلك عند الكثير من السوريين، المعارضين منهم أو الموالين على حد سواء. إذ استطاعت الأنظمة المتلاحقة التي حكمت سوريا أن تبني بدورها أسطورتها المؤسِسة، والتي تقوم على أن الدول الثلاثة المحيطة قد سلخت عن الداخل السوري. في حين أن التاريخ يظهر بوضوح صادم أن دمشق وحلب والقامشلي والجزيرة لم تكن يوماً في دولة واحدة، وفي ولاية واحدة. بل كانت ومنذ قيام الدولة الأموية إلى نهاية الدولة العثمانية عبارة عن مناطق وولايات متعددة ضمن دولة أكبر.

أكثر من ذلك، إن الصراع بين حلب ودمشق من أجل السيطرة، طبع السياسة في تلك المناطق على مدى قرون. وحسب المنطق التاريخي والجغرافي والديموغرافي، تغدو الدولة السورية بحدودها القائمة كياناً مصطنعاً أكثر بكثير من دولة لبنان الكبير.

لبنانياً، ليست المشكلة في وجود الأساطير المؤسسة، بل في غيابها أو ضعفها أو تفاهتها. أكثر من ذلك، هو أصلاً حال كل الكيانات التي لا تحدّها حواجز طبيعية او لغوية أو دينية، والتي ستحتاج إلى أساطير مؤسسة (غير "واقعية" بطبيعة الحال)، من أجل فرض أو تسويق شرعية الكيان التاريخية والحاضرة والمستقبلية. هي الحاجة لأسطورة وهمية تعطيه شرعية لاحقة زمنياً.
ومن شروط هذه الأساطير أنها غير واقعية، ومبالغ فيها، وتخالف الأمانة التاريخية. كما أن كل أسطورة مؤسسة دونها دماء سائلة على "مذبح الوطن"، الذي نقوم باختلاقه وباعطائه شرعية ما. بهذا المعنى، يعاني الموروث الوهمي لإعلان لبنان الكبير، وكذلك الاستقلال، من هشاشة غياب عنصري الدم والشهادة. وبهذا المعنى أيضاً، لم يحفظ التاريخ أي ذكرى حقيقية لما حصل علي درج قصر الصنوبر. كما أن سلطة "الميثاق الوطني" قد جهَّلت كل المرحلة ما بين "إعلان لبنان الكبير" والاستقلال. لذلك، لم ينجح الاجتماع اللبناني في صوغ هوية وطنية جامعة تتحلق حول "لحظة" قصر الصنوبر، أو حول ملحمة قلعة راشيا.

في راشيّا، لم تتكمل العناصر التراجيدو-درامية، ربما لأن أحداً من معتقلي قلعة راشيا لم يفدِ الوطن بدمائه. لا قبعة ابن الخوري هوت، ولا سقط طربوش ابن الصلح.
فالاندماج النهائي للهويات في وعاء وطنيّ جامع، يحتاج إلى بناء وهم تاريخي أعمق بكثير من إعلان قصر الصنوبر في العام 1920، والذي بالمناسبة لا نعرف ما الذي جرى فيه تحديداً، وأكثر من اعتقال دام 11 يوماً، لم تتخلله ضربة كف واحدة. كما أن المارونية السياسية لم ترض إلا على مضض في أن تشرك المسلمين والمسيحيين الآخرين في أسطورة الكيان.

احتكرت المارونية السياسية الأساطير المؤسسة الهشة أساساً، ورفضت تعميمها (أو ربما لم تبذل الجهد الكافي) ما زاد من هشاشاتها في عيون الآخرين. هي مثلاً لم تسع لجعل كل لبناني فينيقيّاً. كما أنها رفضت أن تلبنن (وتعمم) القرية المارونية المثالية القرميدية الرحبانية.

على أي حال، وبالمنطق التاريخي والجغرافي والديمغرافي، الدولة السورية أو الفلسطينية أو العراقية بحدودها القائمة، هي كيانات مصطنعة أكثر بكثيرمن دولة لبنان الكبير.
وإلى "أن يقيم الله دولة العدل"، كل المجد للذكرى الرابعة والسبعين لاستقلاله، ولذكراه المئوية، لبنان الوطن النهائي الأزلي والسرمدي بجبله وأقضيته الأربعة و.. أسطورته المؤسسة الهشة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها