السبت 2020/10/31

آخر تحديث: 00:07 (بيروت)

4 سنوات رئاسة: أقنعة عون و"عُقم" المجتمع المسيحي

السبت 2020/10/31
4 سنوات رئاسة: أقنعة عون و"عُقم" المجتمع المسيحي
أنشأ نسلاً وغرضيّة وجماعة "سياسية" تستولي على المناصب والمكانات (الأرشيف)
increase حجم الخط decrease
اليوم 31 تشرين الأول، ذكرى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. هنا مطالعة في سيرة عون.

في معمعة حروب أهلية - إقليمية ودولية متناسلة في لبنان منذ العام 1975، استُدعي قائد الجيش اللبناني ميشال عون، على عجلٍ وفي منتصف ليل من العام 1988، إلى قصر بعبدا الجمهوري لملء فراغٍ داهم في رئاسة الجمهورية، نجم عن استحالة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بسبب تلك الحروب إياها التي كان الضابط ميشال عون قد خبرها جراء مشاركته في بعض جولاتها ومنعطفاتها من موقعه في الجيش اللبناني، وفي عداد الهيئة الاستشارية الخاصة التي خططت منذ العام 1980 لإيصال قائد القوات اللبنانية الشاب بشير الجميل إلى سدة رئاسة الجمهورية.

وكانت الخطة تلك تترجح بين اختيار وسيلتين متدافعتين، حسب الظروف والتقلبات الحربية والسياسية: إما باعتماد الوسائل الدستورية الشكلية والتسويات والمساومات المعتادة التي تتطلبها الانتخابات الرئاسية في لبنان، من دون أن تستقل عن ظروف الحرب الدائرة آنذاك، وأوضاعها وموازين قواها المحلية والإقليمية والدولية. وإما بانقلاب عسكري - ميليشيوي وأهلي، عماده الجيش اللبناني والقوات اللبنانية والمجتمع الأهلي المسيحي.

وكان أن اختلطت في وصول بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية عوامل الحروب الداخلية والإقليمية، بالانتخابات الدستورية وشكلياتها. لكن الجميل الشاب اغتيل قبل أن يتولى منصبه الرئاسي ويباشر ممارسة سلطاته.

رئيس ومخلِّص بالوكالة
أما قائد الجيش ميشال عون، فما أن استدعي إلى القصر الجمهوري في تلك الليلة العاصفة، وعيّن رئيساً بالوكالة لانجاز مهمة واحدة ووحيدة - العمل على انتخاب رئيس "دستوري" أو "شرعي" - حتى قرّر المكوث في القصر ليكون هو نفسه ولا أحد سواه ذاك الرئيس. وقد استلهم للوصول إلى غايته هذه الوسيلتين اللتين خبرهما وكان على بيّنة منهما، وأوصلتا بشير الجميل إلى سدة الرئاسة وسط تلك المعمعة من الحروب. وخُيّل لميشال عون أن لا سبيل له إلى مبتغاه، إلا بتلبُّس دور بشير الجميل الخلاصي للمسيحيين أولاً، وللبنان ثانياً.

وهذا تقريباً ما خلُصَ إليه وضاح شرارة في مقالة له عنوانها "الشيعة العونية في مرآة (المجتمع) و(الشعب) المسيحيين"، ضمها كتاب "أقنعة المخلص" ("دار النهار"، 2009). وهي خلاصة صدّرها مقالته تلك، بناءً على قراءته كتاب كارول داغر "رهانات الجنرال" ("أف أم للنشر"، 1992). وفيها أن ميشال عون في إصراره المستميت على البقاء في القصر الرئاسي حتى يصير رئيساً "شرعياً" و"منتخباً"، توسل وجهين اثنين:

وجه "ضمير اللبنانيين الحي" طوال سنتين (1988-1990)،  كان في أثنائهما صورة "كرامتهم الوطنية". أي مخلِّصهم من هوان الاحتلال السوري الأسدي ومهاناته. وهذه كانت حال بشير الجميل في مقاومته المسيحية، وصولاً إلى الرئاسة. وقد تلبَّس ميشال عون هذه الحال في إعلانه ما سمّاه "حرب التحرير" على جيش الأسد السوري الذي يرابط في لبنان ويحتله.

ووجه ميشال عون الثاني الذي توسله أيضاً، هو وجه "الانقلاب العسكري واغتصاب السلطة على الطريقة اللبنانية، وفي ركابه الحسابات المتوهمة، والرهانات الخاسرة، والسرابات المتهافتة، والخطابة الشعبوية، والتوقعات المنتشية، والمغامرات والمقامرات الإقليمية والدولية، والكارثة في المحصلة الأخيرة".

حروب الرئاسة
لكن ميشال عون اختصر دور بشير الجميل الخلاصي، أو قلَبَه رأساً على عقب. فبما أنه رئيس جمهورية بالوكالة وقائد جيش رسمي أو "شرعي" وليس قائد ميليشيا، قرر خوض حربين خلاصيتين معاً، أو واحدة تلو أخرى بالتناوب، حسب الظروف والمساومات والاختبارات التي يُحتمل أن تجعله رئيساً. وهو في حروبه الخلاصية، راح يخاطب توق المسيحيين واللبنانيين عموماً، إلى الخلاص من الاحتلال الأسدي السوري، ومن تسلط الميليشيات المحلية عليهم، كلها وجميعها قولاً ونظرياً، وميليشيا القوات اللبنانية المسيحية ضمناً وفعلاً وحقيقة.

فبحربه على الجيش السوري الأسدي، يلهب أولاً توق المسيحيين الخلاصي إلى قائد مقاومتهم القتيل بشير الجميل. ويلهب ثانياً، ولو بدرجة أقل بأشواط، توق المسلمين عامة إلى الخلاص من العسف والتسلط الأسديين السوريين عليهم. وهذا ما يحتمله كون ميشال عون قائداً شرعياً للجيش اللبناني المختلط طائفياً، وفي منصب رئيس جمهورية بالوكالة.

أما في حربه على القوات اللبنانية التي تحولت جهازاً ميليشياوياً ثقيلاً على المجتمع والشعب المسيحيين، وخاوياً أو خالياً من خلاصية قوات بشير الجميل القتيل، فخاطب ميشال عون في خطابه الشعبوي (يا شعب لبنان العظيم) الشعبين اللبنانيين: المسيحي التواق إلى الدولة وشرعيتها وقوانينها للخلاص من عسف أجهزة ميليشيا القوات اللبنانية، والشعب المسلم المعادي والكاره لهذه القوات وإرثها في الحروب الأهلية.

لكن خطط ميشال عون الحربية هذه التي توسلها للبقاء رئيساً "شرعياً" في القصر الجمهوري، سرعان ما انتهت نهاية مأسوية كارثية على المسيحيين خصوصاً، ولبنان كله عموماً، وفرّ الجنرال المخلص من القصر الجمهوري إلى فرنسا.

مستول يتقنّع بالضعف
أما سيرة ميشال عون ومساره وأفعاله كلها، منذ عودته من منفاه الفرنسي إلى لبنان سنة 2005، فقطعت دابر الشك باليقين، ولم توفر واقعة واحدة لا تنبئ وتثبت في كل قول وفعل من أقواله وأفعاله، مذاك وحتى الساعة، أن وجه عون الأول لم يكن سوى قناع موقت وعابر ومفتعل لوجهه الثاني: المتسلق والمستولي على الزعامة والرئاسة، كي ينشئ بعد ذلك نسلاً وغرضيّة وجماعة "سياسية" تستولي على المناصب والمكانات في الدولة والمجتمع اللبنانيين، من طريق زرع مواليه وأتباعه ورهطه في مؤسسات الدولة والحكم والإدارة والمجتمع المدني، كلاً وجميعاً، ليتصدرهم ويديرهم أخصّاؤه وأقاربه وأهل بيته وأصهرته وبناته، يتقدمهم وريثه و"ذكره المستعار" والأحب إلى قلبه، جبران باسيل.

وبعد تربعه في سدة رئاسة الجمهورية، جعل ميشال عون ومعه رهطه، ذاك القناع الأول الخلاصي القديم والممزق ذريعة وحيدة فقيرة وممجوجة لم يعد يصدقها أحد، واختصرها بعبارات أفقر منها راح يرددها مع أركان رهطه: ما عم يخلوني طهّر الدولة ومؤسسات الحكم والإدارة من الفساد. ما عندي صلاحيات للقيام بذلك لتخليص الشعب اللبناني من ذلك الفساد. لقد شلحوني صلاحياتي. ولن أتخلى عن كرسي الرئاسة. ويبلطوا البحر. وكان الله يحب المحسنين. وليلهم الشعب اللبناني الصبر والسلوان. أو إلى جهنم وبئس المصير. وأنا باقٍ في الرئاسة لتسليمها لصهري ووريثي من بعدي، جبران باسيل.

وهذا هو برنامج ميشال عون وعمله في رئاسة الجمهورية، بلا زيادة ولا نقصان.

عقم انتظار قائدين
ختاماً نقتطف هنا من كتاب "أقنعة المخلص" شذرات من شهادة عضو سابق في الهيئة التأسيسية للتيار العوني الشبابي، بعد فرار ميشال عون إلى فرنسا:

بعدما انطوت الصرخة الخلاصية التي أطلقها ميشال عون، برحيله إلى فرنسا، دخل المجتمع المسيحي في حال سبات وقنوط مديدين. وحاولنا نحن قدامى العونيين تجديد تلك الصرخة وإحيائها، لئلا تموت. لكن ما فعلناه لم يكن سوى حملة نضالية شبابية، وصور موهومة عن أنفسنا ونشاطاتنا التي كنا نضخمها في مخيلاتنا، فنتصور أن توزيع منشور وكتابة شعار على جدار في الليل، وإطلاق أبواق سياراتنا على الطرق وفي الأنفاق، والسير في التظاهرات، تصنع ثورة شاملة، وتضعنا على مقربة من تحرير لبنان من الاحتلال السوري.

والمتأمل في أحوال المجتمع المسيحي مذاك (وحتى الساعة)، لا بد أن يتساءل: لماذا انتظر المسيحيون طوال 15 سنة عودة قائدين، أحدهما في السجن (سمير جعجع)، والآخر في المنفى (عون)، كي يعيداهما إلى سدة الرئاسة، من دون أن يبادروا إلى إنتاج زعامات سياسية جديدة في إطار تجاربهم الحية؟! ألا تحمل هذه الواقعة الكبرى على القول إن المجتمع المسحي قد أصيب بشيء من العقم، فيما هو يعيش في انتظار زعيمين أو قائدين مُلهمين دمرت الحروب بينهما المجتمع المسيحي؟!

وأظن أن اغتيال رفيق الحريري أزعج العماد ميشال عون، لأنه كان يحلم برئاسة الجمهورية في حضور الحريري الأب، كي يقلّم أظافره ويقوض زعامته، وجهاً لوجه في رئاسة مجلس الوزراء، مستنداً إلى تأييد وولاء مسيحيين كاسحين و"وصاية" سورية مستمرة على لبنان. وقد استعاض بها للوصول إلى الرئاسة "بوصاية" إيرانية يقودها في لبنان حزب الله. وفي هذا السياق يمكن فهم التحريض العوني المستطير ضد الحريري الأب (والإبن وتيارهما)، ومعزوفة الكلام المتواصل عن الفساد. كأن بقايا التركة السورية الأسدية في لبنان، من حزب الله إلى سلميان فرنجية وفيصل كرامي ووئام ووهاب وناصر قنديل وطلال سلمان وغيرهم من الذين حالفهم الجنرال بعد عودته، من الأطهار وبناة العلمانية والدول والمستقبل، وكأن الحريري وإرثه وحدهما الشرّ كله.

وبعد ما حدث وآلت إليه الأحوال غداة اغتيال الحريري، لا بد للمتبصر من أن يعيد الاعتبار إلى تجربة رفيق الحريري. ففي حياته أنجز في مجتمعه على نحو تجريبي بطيء وهادئ، ما قصر عنه أمثاله من النخب في المجتمع المسيحي. فالحريري بنى للبنان علاقات وصورة في المجتمع العربي والدولي، كان في حاجة إليها بعد الحرب المديدة.

أما ميشال عون، منذ عودته إلى لبنان في العام 2005، فلم يفعل شيئاً سوى تقويض ما بناه الحريري في لبنان وفعله للبنان، وتدميره، فيما هو يستولي على المناصب والمكانات، بينما ينهار لبنان ويهوي إلى الحضيض.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها