السبت 2020/10/10

آخر تحديث: 17:41 (بيروت)

"اليونيفيل" في بيروت: جسّ نبض حزب الله

السبت 2020/10/10
"اليونيفيل" في بيروت: جسّ نبض حزب الله
بعد تفجير المرفأ، أصبح المحظور مسموحاً (Getty)
increase حجم الخط decrease

تكاد تمر عملية نشر وحدة عسكرية تابعة لـ"قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان" (اليونيفيل) في مرفأ بيروت ومحيطه، مرور الكرام، لولا هويتها الأممية هذه، ولولا أنها سابقة تاريخية بالغة الحساسية والأهمية. فقد سبق أن أرسلت المنظمة الدولية مراقبين أمميين إلى قلب العاصمة، لا سيما عام 1982. لكن إرسال "قبعات زرق" إلى بيروت، أو تكليف "اليونيفيل" بمهام خارج نطاق عملياتها في جنوب لبنان منذ 1978، كان من "المحرّمات". فهل تغيرت المعادلة اليوم؟

تجارب مأسوية
فوجئ اللبنانيون بخبر إرسال "قوة متعددة الجنسيات" من "القبعات الزرق" إلى بيروت، اعتباراً من يوم الأحد 27 أيلول 2020. الهدف المعلن هو "مساعدة السلطات اللبنانية في جهود التعامل مع تداعيات تفجير المرفأ في 4 آب". يأتي ذلك ترجمةً لقرار التجديد لـ"اليونيفيل"، رقم 2539، الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 28 آب؛ أحد بنوده يأذن لها "باتخاذ تدابير مؤقتة وخاصة لتقديم الدعم إلى لبنان وشعبه في أعقاب تفجير المرفأ، من دون الإخلال بتنفيذ ولايتها وفي حدود مواردها المتاحة".

لم يحدد القرار بدقة مقاصده. لكن أنْ يُتَرْجَم ذلك بانتشار أممي في قلب بيروت، فهذا يمثل تطوراً لا يمكن التقليل من أهميته الرمزية. تكفي العودة إلى تجارب مأسوية سابقة لاكتشاف كمْ كانت فكرة نشر "القبعات الزرق" خارج الجنوب، تثير الحساسية والاعتراض.

حين انفجرت الحرب اللبنانية عام 1975، لم يكن الجنوب وحده يحتاج لقوات حفظ سلام. فالنيران التي كانت تلتهم مناطق جنوبية، بسبب الصراع بين المليشيات الفلسطينية والقوات الإسرائيلية، سرعان ما انتقلت إلى بيروت وكل لبنان. بسرعة، بدأ التفكير بكيفية وقف الاقتتال الأهلي. تحمّس الفرنسيون لفكرة إرسال قوة تابعة للأمم المتحدة، وبمشاركتهم، للفصل بين المتحاربين. لكن "التواطؤ الأميركي الإسرائيلي السوري" أضاع فرصة "الحل الأممي" السلمي، وأدى إلى تكليف دمشق بتلك المهمة (...)!

لم تتوفر ظروف ملائمة لإرسال قوة دولية إلا بعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في آذار 1978. لم يكن بوسع الأمم المتحدة أن تبقى متقاعسة أمام الاحتلال. لذا، دخلت على خط الأزمة مع تأسيس قوات "اليونيفيل". إلا أن مهامها، شأنها شأن نطاق عملياتها، ظلّت محصورة بمنطقة النزاع بالجنوب. وهنا بدأت قصة جديدة غير مكتوبة لـ"القبعات الزرق" مع بيروت وبقية المناطق.

محاولات فرنسية
أثناء معركة زحلة بين القوات السورية ومليشيات "القوات اللبنانية" و"الكتائب"، في ربيع 1981، طرح الفرنسيون مبادرة لوقف إطلاق النار وإرسال قوة تابعة للأمم المتحدة، تتولى الفصل بين المتنازعين في زحلة وكذلك في بيروت. نال الاقتراح تأييداً أميركياً، شكلياً على الأرجح، لكنه قوبل برفض سوري، ما حال دون أن يبصر النور.

محاولة ثالثة قام بها الفرنسيون أيضاً، في حزيران 1982، أثناء الاجتياح الإسرائيلي الثاني وحصار بيروت. حينها، حاولوا تمرير مشروع قرار أممي في مجلس الأمن يقضي بتحييد بيروت، ويطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تقديم اقتراحات للمجلس، بالتوافق مع الحكومة اللبنانية، حول نشر قوة أممية للتمركز في بيروت. سقط المشروع بـ"الفيتو" الأميركي، في 25 حزيران، لأن واشنطن كانت ترى العملية العسكرية الإسرائيلية فرصةً للتخلص من وجود "منظمة التحرير الفلسطينية" في لبنان. وقد أخرجتها من بيروت تحت حماية "قوات متعددة الجنسيات" وفي ظل تهميش دور الأمم المتحدة. صحيح أنه في مطلع شهر آب 1982، تم إرسال حوالى 10 مراقبين أمميين للإشراف على التزام الأطراف بوقف إطلاق النار، وفق القرار 516 الصادر عن مجلس الأمن. لكن مهمة هؤلاء كانت محدودة، وتمحورت حول رفع تقارير إلى المجلس لإطلاعه على تطور الأوضاع الميدانية في بيروت. وطبعاً، لا يمكن تجاهل أن القرار 521 الصادر في 19 أيلول 1982، بعد مجازر صبرا وشاتيلا، أتاح زيادة عدد هؤلاء المراقبين من 10 إلى 50 مراقباً؛ وكان ينص بوضوح على تفويض الأمين العام للمنظمة الدولية التشاور مع السلطات اللبنانية حول إمكانية نشر "قبعات زرق" في بيروت، لحماية السكان المدنيين فيها. إلا أن هذا التوجه الأخير ظل حبراً على ورق. تراجعت حظوظه بالمطلق أمام إرادة الولايات المتحدة بإعادة إرسال "قوات متعددة الجنسيات"، ذات صبغة "غربية ــ أطلسية" إلى العاصمة. باريس كانت مؤيدة لمشروع "القبعات الزرق". لكن في الواقع، لم يكن لدى واشنطن مصلحة بتشكيل "إدارة أممية" للوضع في بيروت بعد خروج "منظمة التحرير" وياسر عرفات منها. وجود "قبعات زرق" من شأنه أن يمنح الاتحاد السوفياتي، كعضو دائم في مجلس الأمن، إمكانية التأثير على قواعد اللعبة. هذا سيناريو مرفوض لدى إدارة أميركية مصممة على إعادة الحكم في بيروت إلى الفلك الغربي، بعدما وقع البلد كله "في الأسر" على يد الفلسطينيين وحلفائهم، أي حلفاء السوفيات منذ 1969.

أمين الجميّل وحافظ الأسد
سيناريو مشابه نسبياً لما يطمح إليه البعض اليوم، كاد يُطبّق في مطلع عام 1983. حينها، حاولت السلطة اللبنانية بقيادة رئيس الجمهورية، أمين الجميل، الحصول من مجلس الأمن على قرار يتيح توسيع نطاق عمليات قوات "اليونيفيل" ليشمل كامل الأرض اللبنانية. الأهداف المعلنة، كما جاءت في الطلب اللبناني، تتمثل بدعم عملية انسحاب كل القوات غير اللبنانية (...). يتعلق الأمر خصوصاً بالقوات السورية التي كانت لا تزال تتمركز في البقاع، وببقايا المليشيات الفلسطينية التابعة بشكل خاص لدمشق. لم تستجب الأمم المتحدة لهذا الطلب، مكتفيةً بتجديد روتيني للقوة الدولية بجنوب لبنان.

تكررت محاولة تكريس "الحل الأممي" أثناء انسحاب "قوات المتعددة الجنسيات" من بيروت، إثر سلسلة ضربات تلقتها، أبرزها الاعتداء الشهير ضد قوات "المارينز" الأميركية (241 قتيلاً) ومركز "دراكار" للقوات الفرنسية (58 قتيلاً) في 23 تشرين الأول 1983. باريس هي التي أصرت في 20 شباط 1984، على تمرير قرار أممي ينص على إرسال قوات تابعة للأمم المتحدة إلى بيروت، لتحل محل القوات "الغربية ــ الأطلسية". بيد أن المحاولة باءت بالفشل بفعل "الفيتو" السوفياتي هذه المرة. لماذا ستقبل موسكو بخيار "القبعات الزرق"، بعدما نجحت بالتحالف مع السوريين في قلب الطاولة من جديد على الأميركيين والغربيين في لبنان؟

مع نهاية ولاية أمين الجميل الرئاسية في أيلول 1988، سعت فرنسا لتجنب الفراغ الرئاسي. وكان لديها تصور، قوامه الاستعانة بقوات "اليونيفيل" استثنائياً لضمان الأمن في بيروت أثناء تنظيم العملية الانتخابية، لاختيار رئيس توافقي. سيناريو كهذا كان سيودي بطموح الرئيس السوري، حافظ الأسد، الرامي إلى إحكام قبضته على البلد. لأن الآلية الأممية تمنع تلقائياً الوصاية السورية على العملية الانتخابية. على أي حال، رفض المسيحيون الجانب السياسي ــ الرئاسي من الاقتراح الفرنسي، فيما اعترض المسلمون على أي تعديل بمهام "اليونيفيل" وأي تحجيم للدور السوري. هكذا، فشلت آخر محاولة في تاريخ الحرب اللبنانية لإرسال قوة تابعة للأمم المتحدة أو "اليونيفيل" إلى بيروت. آنذاك، دعمت المنظمة الدولية الدور العربي الذي أفضى في المحصلة إلى توقيع اتفاق "الطائف" وصولاً إلى إنهاء الاقتتال الأهلي.

تعديل نوعي
بعد تفجير المرفأ، أصبح المحظور مسموحاً. "اليونيفيل" حطّت أقدامها في بيروت، حتى ولو كان طابع عملها لوجستياً أو إغاثياً. تحركها استثنائي بالطبع. لكن ما الذي يمنع تحوّل الاستثناء إلى قاعدة في المستقبل؟ بات التساؤل مشروعاً بالتالي عن احتمال البناء على هذه التجربة لمحاولة تعميمها أو تثبيتها لاحقاً، إذا اقتضت الضرورة الأمنية. يمكن أن يتعلق الأمر إذاً بتعديل نوعي في مهام "اليونيفيل".

الموضوع غير مطروح حتى الآن، أقله في العلن. وقد تنسحب وحدة "اليونيفيل" نهائياً من مرفأ بيروت بعد أسبوعين على انتهاء مهامها، بحسب ما نُقِلَ عن قائد "قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان"، الجنرال ستيفانو دل كول، بعد لقائه نائب رئيس "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" منذ أيام. لكن أن تمر خطوة كهذه من دون إثارة أي ضجة تُذْكَر في لبنان، وبلا اعتراض علني، فهذا يعني على الأرجح أن الأمم المتحدة قامت بعملية جس نبض حزب الله. عدم قطعه الطريق على الخطوة قد يُفَسّر بوصفه غض طرف مؤقت، أو ليونة، أو تنازل من قبله. بيد أنه فتح كوّة ولو صغيرة أمام سيناريو أممي محتمل، يمكن أن يشمل كامل الأرض اللبنانية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها