الثلاثاء 2019/01/22

آخر تحديث: 00:48 (بيروت)

نفوذ روسيا في لبنان محدود بضعف جاذبيته

الثلاثاء 2019/01/22
نفوذ روسيا في لبنان محدود بضعف جاذبيته
لا مؤشرات ملموسة توحي بتعاظم نفوذ روسيا في لبنان (أ. ف. ب)
increase حجم الخط decrease
تسعى روسيا للاستفادة من دورها الحاسم في الحرب السورية، ومن تحوّلها إلى لاعب لا يمكن تجاهله في الشرق الأوسط، من أجل بناء نفوذها وتعزيز مصالحها في دول المنطقة، لا سيما في لبنان. 
نواياها في هذا الصدد واضحة. وجهودها متلاحقة لتحقيق الهدف المنشود. لكن النيّة شيء والإمكانيات شيء آخر. الطريق تبدو معبّدة لتفعيل الحضور الثقافي الروسي في لبنان، والعلاقات الاقتصادية الثنائية تشهد تحسناً ملحوظاً. إلا أن ذلك لا يكفي للحديث عن نفوذ روسي، ثقافي واقتصادي. العلاقات التجارية العسكرية تراوح مكانها. والدبلوماسية الروسية لا تزال تفتقد للتأثير المباشر على اللعبة السياسية، وبعيدة كل البعد عن الإمساك بمفاتيحها الرئيسة.

الحضور الثقافي
لا جدال حول الفرص المتاحة من انتشار تسعة مراكز ثقافية روسية حتى الآن، في بيروت ومناطق عدة، ومن استمرار سياسة تقديم عشرات المنح الدراسية سنوياً لطلاب لبنانيين، لاستكمال تعليمهم العالي في جامعات روسية. هذه الجهود، تساعد على تنامي الإشعاع الثقافي واللغوي، وتساهم في بناء علاقات وصداقات لروسيا مع أوساط شعبيّة لبنانية. هي جزء من دبلوماسية ثقافية، لا بدّ من تقييم نتائجها بعد مرور فترة من الزمن. لكن الفرضية تقول إن تفاعل قسم من الجمهور مع أفعال كهذه، من شأنه أن يعزز الحضور الثقافي لروسيا في لبنان، من دون أن يتيح لها التحوّل إلى منافس فعلي لدول مثل فرنسا والولايات المتحدة الأميركية أو حتى بريطانيا وألمانيا وكندا. 

تفاوت أحجام التأثير بين روسيا وتلك الدول الغربية، لا يمكن أن يكون لصالح الأولى، سواء تعلق الأمر باستقطاب الطلاب اللبنانيين، أو بانتشار اللغة، أو بشتى مجالات التعاون الثقافي. بإمكان كل الدول مخاطبة الرأي العام الأجنبي وبلورة سياسة اتصالية مخصصّة للتفاعل معه وإطلاعه على ثقافتها، وقيمها، وإنجازاتها، ومواقفها السياسية الداخلية والخارجية. والدول تطمح لتوظيف كل ذلك بهدف تكوين صورة جذّابة لها في نظر الجمهور الأجنبي. إضافةً إلى إقناعه بأفكارها وتصرفاتها. بمعنى آخر، الدول تسعى لامتلاك "قوة ناعمة" تنبثق من جاذبية ثقافتها ومُثلها السياسية وسياساتها العامّة في الداخل والخارج، حسب تعريف الباحث الأميركي لهذا المفهوم، جوزف ناي. وعليه، بوسع روسيا أن تجذب جزءاً من الجمهور اللبناني نحو ثقافتها. لكن في المقابل لا يمكنها تجاهل نفور بقيّة الجمهور من سياساتها وأدوارها على الساحة الدولية، خصوصاً في سوريا، حيث تلطخت أيديها بدماء المدنيين. وهذا المعطى كفيل بالحدّ من "القوة الناعمة" الروسية.

التعاون الاقتصادي
كما في الثقافة كذلك في الاقتصاد. صحيح أن روسيا تسجّل اختراقاً في مجال التعاون الاقتصادي والتجاري مع لبنان، خصوصاً مع تزايد نسبة صادراتها إليه في السنوات الأخيرة، وانضمام شركة "نوفاتك" الروسية إلى تحالف مع كل من شركة "توتال" الفرنسية وشركة "إيني" الإيطالية، لبدء التنقيب عن النفط والغاز قبالة الشواطئ اللبنانية. لكن هذه المكاسب، على أهميتها، لا تكفي لتحوّل روسيا إلى شريك اقتصادي فعلي واستراتيجي للبنان.

البعد العسكري
لعل فشل صفقة التعاون العسكري أخيراً مع الجيش اللبناني، المتعلقة ببيع معدات وتدريبات بقيمة مليار دولار، خير دليل على محدودية الثمار المتروكة لروسيا في لبنان. أما الحديث عن مساعدتها له في مكافحة الإرهاب، فلا يؤسس لشراكة استراتيجية أو لنفوذ روسي بديل عن النفوذ الغربي. ثمة استثناء محتمل، يتعلق بالتسريبات حول إمكانية توسيع روسيا لنطاق عمل بطارياتها الصاروخية لتشمل الأجواء اللبنانية. لكن السؤال يتعلق بمعرفة الثمن الذي ستطلبه روسيا مقابل خطوة كهذه؟ من السذاجة الاعتقاد بأنها ستقدم دعماً مجانياً وغير مشروط. وتعقيدات المشهد الجيوسياسي اللبناني لا تبشّر بسهولة التوصل إلى هذا المستوى من التعاون الدفاعي الاستراتيجي مع روسيا. والدول العظمى معتادة على مهارة القادة اللبنانيين في ابتزاز إحداها من أجل الحصول على مكاسب إضافية من الأخرى.

السفير غير كافٍ
لا يمكن الحديث حالياً عن سياسة لبنانية لروسيا. ربما ستنجح يوماً ما بتشكيل نفوذ سياسي لها في لبنان. لكن لا مؤشرات ملموسة توحي بقرب حصول ذلك. صحيح أن هناك بعض المبادرات، لكنها متعثّرة، مثل مسعاها لإعادة النازحين السوريين، أو غير مثمرة، كما هي الحال مع الموقف الروسي حول ضرورة الإسراع بتشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري. التواصل الحيوي بين سفير موسكو في بيروت، ألكسندر زاسبكين، والمجموعات السياسية والاقتصادية والدينية اللبنانية المختلفة، وحضوره البارز عبر وسائل الإعلام المحلية، لا يعنيان إيجاد حلفاء، أو بالأحرى وكلاء. لا تمثّل روسيا دور العرّاب لأي قوة سياسية حاكمة في هذا البلد وليس لها سلطة على أيّ منها. وموهوم من يعتقد بأن القادة اللبنانيين على وشك نقل البندقية من كتف إلى كتف، كما فعل أسلافهم في أربعينيات القرن الماضي، عندما ضعفت فرنسا مقابل تقدم نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فاستبدلوا بكل انتهازية وبسرعة هائلة الأولى بالثانية. فالإقليم لا يشهد الآن أفول القوة الأميركية المرجحة.

مكيافيلية دينية
صحيح أيضاً أن تلويح روسيا بشعار حماية مسيحيي الشرق، يجلب لها تعاطفاً شعبياً ويغري رجال الدين المعنيين. لكن هذا الشعار، عدا عن أبعاده المكيافيلية وعدا عن أن تطبيقه يتم على وقع مشاركة روسيا في حرب سورية دموية، ذات أبعاد طائفية، يُنتج بحكم الواقع حلفاء هامشيين. لأن حجم الطائفة الأرثوذكسية لا يسمح بتقليد التجربة الفرنسية مع الموارنة أو التجربة الإيرانية مع الشيعة في الجغرافيا السياسية اللبنانية.

بناء نفوذ روسي مشابه للنفوذين الفرنسي والأميركي في لبنان يتطلب استراتيجية ثابتة وطويلة الأمد، غير موجودة حالياً. كما يحتاج لموارد قد لا تمتلكها كلها روسيا حتى تتمكن من تحويل حضورها المتنوع وتواصلها السياسي المتعدد الأبعاد إلى نفوذ استراتيجي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها