الثلاثاء 2017/10/31

آخر تحديث: 00:07 (بيروت)

النسبية.. نهاية اليسار؟

الثلاثاء 2017/10/31
النسبية.. نهاية اليسار؟
مع النسبيّة يرجح زيادة التحصن الطائفي (Getty)
increase حجم الخط decrease

من البدايات، جعلت الأحزاب والقوى "اليساريّة والمدنيّة اللبنانية إقرار قانون للانتخاب يلحظ النظام النسبي مطلباً أساسياً لها، بل المدخل الرئيس لحل المشكلات المستعصية التي يعاني منها البلد، والتي بحسبها تنبع جميعها من طبيعة النظام السياسي الطائفي. اليوم، وبعد إقرار قانون الانتخاب الجديد في حزيران الماضي، يمكن القول إن هذا المطلب قد تحقق، بغض النظر عن النقاشات التقنيّة التي أحاطت به (بشأن عدد الدوائر وحجمها والحاصل الانتخابي وترتيب الفائزين والصوت التفضيلي)، وبغض النظر أيضاً عن عورات طفيفة يعاني منها- أبرزها ضم قضاءي جزين وصيدا في دائرة واحدة رغم غياب التواصل الجغرافي بينهما- ولا تؤثر بشكل جذري في النتيجة العامة المرتقبة للاقتراع.

ومع إقرار القانون الجديد، تقف البلاد للمرة الأولى أمام امتحان جدّي لنظريّة الربط بين النظام الانتخابي واستعار الانتماء الطائفي عند فئات واسعة من الشعب. هنا، وقبل الغوص في التكهن بشأن التفاعل بين هذين العنصرين، سواء أكان سلبياً أم ايجابياً، علينا توضيح مفاهيم أفقدتها معناها السجالات السياسية والإعلامية المزمنة، التي كثيراً ما تخلط الأمور ببعضها وترتكز إلى مفاهيم فضفاضة تعكّر النقاشات العلميّة الهادفة، وتحوّلها إلى جدالات بيزنطيّة.

في هذا الخصوص، يتطلب تصويب النقاش حول النظام السياسي اللبناني، حالياً ومنذ الاستقلال، توضيحاً مفاده أن مصطلح "الطائفية السياسيّة" لا يوصّف حقيقة النظام القائم، خصوصاً في ما يخص مقاربة هذا النظام من الناحية المتعلّقة بآليات وأنظمة الإقتراع. ففي النظام الحالي، على جميع سيئاته، يحق للمقترع المسيحي أن يختار ممثلاً مسلماً للندوة البرلمانيّة، والعكس صحيح. بالتالي، إن الضابط الوحيد المفروض على عملية الاقتراع، يتجسّد في تحديد طوائف النواب من دون الحدّ بالمقابل بمن يحق له أن ينتخبهم. إذن، لا يمكن اعتبار أن ذلك يمثّل حقاً فصلاً طائفياً، إلا إذا اعتبرنا أن النائب لا شرعية له في تمثيل الناخبين الذين لا ينتمون إلى طائفته. وهذا المنطق يجافي واقع السلوك السياسي، فمن المثبت تاريخياً، أن النائب المسلم المنتخب من أكثرية مسيحية، يسعى في مواقفه إلى محاكاة هذه الأكثريّة التي عليه الحفاظ عليها في سبيل العودة إلى المجلس النيابي، والحالة المعاكسة صحيحة كذلك.

غالباً ما يقول منتقدو النظام الحالي، إنه يخدم الطوائف على حساب الوطن. ولكن، في تمحيص للواقع منذ الاستقلال، تفرض علينا الدقة القول أن هذا النظام يفيد نخب طائفيّة، تستفيد على المستوى الشخصي من تخصيص مقاعد معيّنة لطائفتها، دون أن تكون العموم المنتمية إلى الطوائف مستفيدة، أو حتى ممثلة فعلياً، ضمن تلك التركيبة. إذن، بما أن النظام الانتخابي الحالي لا يفصل عملياً بين الطوائف، بل يفصل بين بعض النخب المنتمية إليها والساعية إلى دخول الندوة البرلمانية، من الأصح وصفه بتعبير "الطائفية النخبوية" عوضاً عن المصطلح السائد حالياً "الطائفية السياسية". وفي ظل هكذا نظام، الذي يمكن أن يصلح لوصف جميع قوانين الانتخاب السائدة منذ تأسيس الجمهورية وصولا إلى القانون الجديد، تُعتمد الطائفية "من فوق"، أي أنه يقوم على الحدّ من المنافسة بين المرشحين (عبر تخصيص كوتا طائفية لهم)، فيما يفتح هذه المنافسة على مصراعيها على صعيد القواعد المقترِعة (أي "من تحت"). ما يؤدي إلى ازدياد في الشحن والانتماء الطائفيين عندها.

لذلك، مع إدخال عنصر النسبيّة إلى تركيبتنا، وبغض النظر عن حجم الدوائر، سواء أكانت خمس عشرة أو محافظات أو دائرة واحدة، من المرجح أن يؤدي الأمر إلى مزيد من التحصن الطائفي، وليس إلى تخفيف هذا العنصر كما يتوقع مريدو النسبية. التغيير الجذري الذي تحدثه النسبية في سلوك المرشحين هو أنها تخفّض من أهمية الصوت الواحد، وحتى الألف صوت، التي لا يمكن أن تُترجم في أي مقعد إضافي للحائز عليها. بل تتحوّل الأولوية عند الافرقاء السياسيين إلى تأمين استنهاض كتلة صلبة من المقترعين، تدل التجربة إلى أن أسرع طريقة لتحقيق هكذا تجييش بأقل تكاليف وجهود ممكنة يمرّ عبر الرفع من منسوب الخطاب الطائفي. وليس على من يشكّك في الأمر إلا أن ينظر إلى الانتخابات البلديّة والاختياريّة التي لا تتضمّن أي نوع من الفصل على أساس طائفي، بل تحرّر الإقتراع بالكامل. فكم هي نسبة القرى التي تنتخب رئيساً لبلديتها ينتمي إلى طائفة غير تلك التي تشكّل الأكثريّة ضمن لوائح الشطب في القرية؟

إنطلاقًا من هنا، سؤالان يطرحان نفسهما. أولا، هل إن قانون الانتخاب هو أصلا المعبر الصالح لتحقيق إلغاء الطائفية؟ وأبعد من ذلك، هل إن إلغاء الطائفية ينفع لأن يكون هدف سامي موضوعي قائم بحد ذاته؟

قانون الانتخاب ليس العنوان الصالح لتغيير أنماط أو انتمائات مجتمعيّة، منها الطائفية. بل بالعكس، إن هدفه الأساسي تمكين المجتمع في أن يتمثل بأفضل حالة ممكنة (والنقاش حول مفهوم "التمثيل الصحيح" يطول)، وفقًا لخصائص هذا المجتمع. فإذا كان الانتماء الطائفي عند راجحاً على غيره من الانتماءات، من الطبيعي أن يترتب عن ذلك انتخاب مجلس نيابي على مثاله. وما يسمّى الطائفية السياسية ليست إلا مرآة لطائفية المجتمع. فالغاء الأولى لن يؤدي تلقائياً إلى الغاء الثانية. في المقابل، لماذا التركيز على العمل على الغاء الطائفية؟ من يقول إن هذا الانتماء لا يمكن أن يتصالح مع انتماء أوسع وأشمل للوطن؟ لماذا يمكن علينا القبول بشكل طبيعي بالانتماء لقرية أو قضاء أو محافظة، بحيث لا أحد يعارض تقسيم الدوائر الانتخابية على هذا الأساس، ويكون الانتماء للطائفة شواذاً يجب تصحيحه؟ من يحق له أن يعرّب أو يرتّب الانتماءات المختلفة، من طائفيّة أو مناطقيّة أو جندريّة أو جغرافيّة أو سياسيّة، ويقرّر أياً منها شريف أو قذر؟ ومن يحسم أن هذه الأبعاد في الهوية عند المواطن غير قابلة للجمع أو التوفيق أو التراكم؟

في كل حال، لبنان أصبح بحاجة إلى نقاش متجدد وعلمي وصريح بشأن مكانة الطائفية ضمنه. وإذا كان هناك من يعتبر أنها آفة يجب محاربتها، فليقرع غير باب قانون الانتخاب. الأجدى هو الذهاب قبل كل شيء إلى إصلاحات في المناهج التربوية (يبرز بوضوح مثل جمهوريّة إندونيسيا التي تتألف من 13,000 جزيرة مشتتة والتي نجحت بخلق هويّة وطنيّة جامعة ومحترِمة للفروقات بين مكوّناتها المختلفة، بهذه الطريقة وليس عبر أي نوع من قوانين الانتخاب)، وقوانين الأحوال الشخصيّة (من زواج وطلاق وميراث على سبيل المثال لا الحصر)، والروابط العديدة بين الدولة والطوائف، كالمحاكم الروحيّة مثلاً. وفي حال وُجد إصرار على استخدام قانون الانتخاب ضمن هذا السياق، فالمعبر الأنسب لتحقيق الغاية المنشودة يكون عبر اعتماد قانون يحترم روحيّة الميثاق الوطني والدستور، وينصّ على الطائفيّة "من تحت" وليس "من فوق"، فيفضّ الاشتباك الانتخابي بين الطوائف ويعزل المنافسة الانتخابية ضمنها وليس بينها. وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا يُعتبر مقبولا أن يترشح من هو من خارج القضاء (مثل الرئيس ميشال عون في كسروان)، فيما لا يُقبل أن يمثّل الطائفة إلا ابن الطائفة؟ في المقابل، لماذا نثني على الفصل الانتخابي بين الأقضية أو المحافظات، ونتغنّى بخصوصياتها، فيما نشجب اعتماد المعيار نفسه للطوائف؟

في النهاية، أحياناً يكون تحقيق هدف منشود نهاية بعض التيارات والأحزاب التي تصبح ضحية نجاحاتها. في بريطانيا، تمكن حزب استقلال المملكة المتحدة (يوكيب) بقيادة نايجل فاراج من دفع البلاد إلى الخروج من الاتحاد الاوروبي. وبعد اقرار البريكسيت من حكومة الحزب المحافظ تحت ضغط اليوكيب، غدا هذا الأخير عارياً من العناوين الانتخابية الصالحة للطرح، فأُبيد انتخابياً في أيار 2017. بعد تحقيق النسبية، وبما سيتبين لاحقاً من تأجيجها للطائفية بدل من إخمادها التدريجي، هل تنذر بدورها بنهاية اليسار المدني التقليدي اللبناني؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها