الأربعاء 2014/10/22

آخر تحديث: 08:30 (بيروت)

كم ضلعاً في دائرة السلطة؟

الأربعاء 2014/10/22
increase حجم الخط decrease
الفيديو الذي بثه موقع "دوت مصر"، الأسبوع الماضي، والذي يظهر عجز طلاب جامعيين عن الأجابة على أسئلة أساسية، أثار موجة من التعليقات والنقاش المستمر حتى اليوم. فالشريط الذي تجاوز الأربع دقائق بقليل، وحظي بأكثر من مئتي ألف مشاهدة في أربعة أيام، دفع إلى جدل مستعر في شبكات التواصل الاجتماعي، على محور الاستدلال أولاً، ومن ثم على محور السبَبية.

على المستوى الأول، تلقف طرف في الجدل، الفيديو، بوصفه صالحا للاستدلال وبلا تحفظات على انهيار مستوى التعليم في مصر، واعتبره دليلاً قاطعاً على ضحالة وجهل طلاب الجامعة المصريين. أما على الجانب الآخر، فدفع فريق بفساد منطق الاستدلال هذا، لأسباب عدة، محاججاً بقواعد الاستنباط الإمبريقي في صورتها المبسطة. فاستنباط مقولة شاملة عن مستوى التعليم المصري، والقدرات الإدراكية لقطاع كامل من طلاب الجامعة – وإن شكّل فرضية مضحكة في حد ذاته – فذلك يستلزم دراسات يتوافر فيها الحد الأدنى من مقومات البحث العلمي، وتحديداً: العينة الممثّلة لموضوع البحث، ووسيلة البحث المنضبطة، وهما ركنان لم يتوافر أي منهما في الفيديو موضوع الجدل. فالعينة التي قدمت للمشاهد بدت وكأنها انتقائية عمداً، في اقتصارها (باستثناء واحد) على الطلاب الذين فشلوا في تقديم الإجابات الصحيحة، وهو ما أكده أحد القائمين على تحرير الفيديو لاحقاً. إذ لا قيمة ترويجية لفيديو يزخر بإجابات صحيحة مملة لمجموعة من الأسئلة البسيطة. أما في ما يخص أداة البحث، فتبدو أيضاً غير صالحة للاستنباط. فتأثير التعرض، وهو التأثير السيكولوجي الذي يحدثه تعرض الفرد للمشاهدة، معيق، ليس فقط للعمليات الادراكية، بل والحيوية أحياناً، وهو كفيل بإفساد صلاحية الاستدلال. وعليه، استخلص الفريق الثاني أن الفيديو لا يُستدلّ به على شيء، سوى أن استخدامه للاستدلال، في حد ذاته، يعدّ دليلاً على جهل المستدل وضحالته وتهافته.

تعامل البعض مع الفيديو بخفة تليق به. فهو بالطبع، ليس دراسة علمية يمكن إخضاعها لقواعد البحث. واكتفوا بالمقارنة بفيديوهات مماثلة تزخر بها البرامج الكوميدية في العالم الغربي، خصوصاً الولايات المتحدة، و التي بالطبع لا أحد يتعامل معها بجدية هناك. وفي الوقت ذاته، انبرى البعض، في جدية متناهية، لتحليل أكثر تفصيلاً تناول نوعية الأسئلة المطروحة بوصفها قياساً للذاكرة والقدرة على الاستظهار، لا القدرة على التفكير أو الاستنباط المنطقي، وصولاً إلى إسهاب هو الأطرف، حول "معضلة الدائرة". فسؤال عن عدد أضلاع الدائرة، فشل معظم الطلاب في تقديم إجابته الصحيحة بحسب معدّي الفيديو الذين افترضوا أن اجابته الصحيحة هي: صفر، تحول ساحة جدل في أساسيات الهندسة والمنطق. فالأحجية الكلاسيكية، والتي طالما استخدمت في دروس الهندسة الأولية في المدارس الغربية، تم استخدامها أيضاً في أبحاث سيكولوجية راجت في ستينات القرن الماضي في الولايات المتحدة، حول تأثير التخصص الأكاديمي في قدرات الاستنباط المنطقي.

فطبقاً لواحدة من تلك الدراسات على الطلاب الأميركيين، فإن السؤال يحتمل – هندسياً – إجابات عدة، هي: ضلع واحد، أو ضلعان، أو عدد لانهائي، أو صفر.. بحسب تعريف الضلع، وطبقاً للنظرية المستخدمة في تعريف الدائرة، وبحسب مرجعية السؤال للهندسة المسطحة أو الفراغية. وقد أجاب من سُئلوا من غير المتخصصين: إما صفر، أو عدد لانهائي من الأضلاع. بينما تردد معظم الطلاب من ذوي الخلفية الرياضية والهندسية في الإجابة، دافعين إما بعجزهم عن الإجابة أو بفساد منطق السؤال نفسه، لافتقاده للتعريفات الإجرائية اللازمة.

وكانت خلاصة البحث الذي تم تكراره بصيغ مختلفة لاحقاً، هو تأكيد فاعلية التدريب الأكاديمي في مجال الرياضيات، في تطوير قدرات الطلاب على التحليل المنطقي الصرف، والذي كانت أركانه، بحسب البحث، هي الشك، والنأي عن القطعية والاختزالية والمرجع النظري الأحادي، والميل إلى استحضار التعدد النظري واعتماد إطار إجرائي يستوعب تنوعاً تعريفياً. من هنا، كانت الإجابة الصحيحة هي أن السؤال غير صالح للإجابة في صورته تلك، لفساد أركانه وعدم اكتمال مقدماته. وهي أركان للتفكير المنطقي، يبدو أن صنّاع الفيديو أنفسهم والمتذرعين به، يفتقدونها، أكثر من الطلاب الذين عجزوا عن الإجابة.

يطرح الجدل المطروح حول فيديو "دوت مصر"، مادة خصبة للتحليل. لكن أكثر ما يلفت الانتباه هو ذلك الاهتمام المبالغ فيه، وحدّة الانقسام حوله، والإسهاب في الدفاع عن منطقَي مُعسكريه. انقسام ينبع من الإدراك العميق، لدى الطرفين، لطبيعة ما يطرحه الفيديو سياسياً، ودوره في بنية الخطاب العام حول المصريين وعلاقات السلطة والمعرفة وربما أيضا العنف.

فمن غير الصعب تبيّن علاقة، ولو بعيدة، بين فيديو مشابه احتفت به مواقع الإسلام السياسي، حيث يعجز سكان أهالي قرية مصرية عن الأجابة على أسئلة بسيطة تتعلق بالدين الإسلامي، وبين فيديو لاحق لأحد أمراء الحرب "الدواعش" يستجوب أحد المسنين العراقيين، بلهجة مصرية، حول أساسيات الإسلام، ثم يهدده بالقتل الفوري لعجزه عن الأجابة. توسلات المسنّ العراقي للداعشي، وطلبه الوحيد: "علّمني"، ترسم بوضوح استثنائي علاقات القوة داخل خطاب المعرفة والجهل، بصيغة ميشال فوكو القوة/المعرفة. تتمحور رسالة الفيديوهات الثلاثة، حول خطاب أزمة، بيانها الجهل وضحالة العامة، أزمة تستوجب حضوراً ضدها، أي العارف، لا بوصفه عالماً فحسب، بل كسلطة قادرة على محو الجهل، ولو بقوة السلاح في حالة الداعشي.

لا يمنح خطاب "جهل العامة" قوة سلطوية للعارف بالضرورة، لكنه، على الأقل، يمنح مبرراً أخلاقياً لموقع السلطة المطلقة والجبرية. فالسلطة على أرض الواقع، هي محدد المعرفة "الصحيحة"، ومنتجها الحصري. والمعرفة ليست مبرر السلطة، بل أحد أركانها الرئيسية، وأكثر أدواتها فاعلية في بسط الهيمنة ايديولوجياً. من هنا يبدو فيديو الداعشي تبريراً منطقياً لسلطة الدولة الإسلامية، ومبرراً أخلاقياً لغزواتها ولممارساتها الوحشية ضد السكان من غير العارفين، وتأطيراً لعلاقات السيطرة والإخضاع على محور المعرفة والجهل، الإيمان والكفر. أما شريطا القرية المصرية، والطلاب الجامعيين، فيطرحان الرسالة نفسها، بوجهيها الإسلامي والعلماني في الواقع المصري. الأول يطرح تبريراً أخلاقياً لسلطة – أحد أركان محدداتها المعرفة بالإسلام، بلا صيغة تعاقدية مع العامة الجهلة أو تمثيلية لجموعهم الضحلة. وفي الحالة الثانية، ولو عن لاوعي، يقدم فيديو الطلاب طرحاً مماثلاً لصيغة السلطة نفسها، وإن بصبغة علمانية.

تزامن بث فيديو "دوت مصر"، مع الحملة الأمنية الشرسة ضد الطلاب الجامعيين، دفع البعض للإدعاء بأن خطاباً عن "جهل" الطلاب الجامعيين تعززه رسالة الفيديو، من دون نيّة مبيتة من صانعيه، تخدم في النهاية تبريراً أخلاقياً لقمع سلطوي تجاه الطلبة "الجهلة"، ودافعاً منطقياً لإجبارهم على هجر السياسة والإنكباب على تحصيل علومهم ولو بالقوة.

تأتي المفاجأة في النهاية: يتفق طرفا الجدل، في ما يخص فيديو "دوت مصر"، على أن هناك أزمة عميقة في نظام التعليم المصري، ومستوى المعرفة والثقافة لعموم المصريين. اتفاق لم يخمد الجدل بل قاد إلى نقاش أكثر جوهرية على محور السبيبة...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها