الأربعاء 2015/09/02

آخر تحديث: 10:45 (بيروت)

مريم ودولة الصفر

الأربعاء 2015/09/02
increase حجم الخط decrease
"صفر مريم"، كانت القضية التي تابعت حلقاتها الدرامية وسائل الإعلام المصرية وجمهورها بشغف طوال الشهر الماضي. ولا عجب، فقضية الفتاة الصعيدية القبطية، المتفوقة في دراساتها وفي مراحل تعليمها كافة.. حتى حصولها على صفر في امتحانات الثانوية العامة، لا تخلو من منعطفات مفاجئة ومأساوية كفيلة بالتورط على المستوى الإنساني، خصوصاً بعد تعرض مريم لانهيارات عصبية متتالية منذ إعلان نتيجتها. لكن إصرار الفتاة وأسرتها متواضعة الحال، على المطالبة بحقها القانوني في إعادة تصحيح أوراقها، واتهامها لوزارة التعليم بتزوير نتائجها (ربما لصالح أحد الطلاب المتنفذين) كان قد أكسب القضية أبعاداً سياسية وطبقية وطائفية، لم تتوان وسائل الإعلام، بدورها، عن تلقفها و تضخيمها وإعادة تصديرها للجمهور.

جاء تحويل النيابة العامة لأوراق القضية إلى الطب للشرعي، لفحص ادعاء التزوير من عدمه، بمثابة اختبار من نوع آخر لنظام العدالة في مصر، والذي تطاول نزاهته أسهم النقد والتشكيك المحلي والدولي، هذه الأيام، أكثر من وقت مضى. دفعت تسريبات إعلامية، تكهنت بإثبات الطب الشرعي للتزوير، بحملة غاضبة تدعو إلى إستقالة وزير التعليم ومحاسبة المسؤولين. لكن في دولتنا التي لا تخطئ مؤسساتها أبداً، أثبت التقرير الرسمي لجهاز لطب الشرعي، الذي أدعى في السابق أن وفاة خالد سعيد كانت نتيجة إبتلاعه للفافة من البانجو، بأن أوراق اختبارات مريم، صحيحة، نافية أي احتمال للتزوير، وأنها تستحق صفراً في كل المواد الدراسية.

وبينما أغلقت النيابة العامة ملف القضية، وهدد وزير التعليم من يجرؤ على اتهام وزارته بالتزوير مستقبلاً، بالحرمان من التعليم لمدة ثلاثة أعوام، حال ثبوت بطلان إدعائه، تعرض النظام السياسي لواحدة من أفدح حملات النقد حتى من بين صفوف مؤيديه الأشد إخلاصاً. فبعد تصريح مريم، بأنها لن تتواني عن المطالبة بحقها، حتى ولو باللجوء للمؤسسات الدولية، صرح الفنان الكوميدي محمد صبحي، وهو أحد أشد المؤيدين لنظام السيسي ومن أعلى أصوات الشوفينية المعادية للخارج وصاحب الدعوة الشهيرة: "أقفل على مصر يا سيادة الفريق"، صرّح باستعداده لتحمل نفقات تعليم مريم في الخارج. وفي حين تم تدشين حملة لجمع التبرعات على شبكة الإنترنت لصالح تدبير نفقات تعليمها في الخارج، هاتفني أحد الأقرباء وكان تأييده الشديد للنظام دفعه إلى مقاطعتي لفترة تجاوزت العام، ليخبرني بأن مأساة مريم قد دفعته للاعتقاد بأن الدولة في مصر على المحك، إن لم تكن قد انهارت بالفعل. كان مثيراً للانتباه في مكالمة قريبي، والتي لم تخلُ من مرارة ذات نكهة طائفية، إن دفاعه المستميت في السابق عن النظام في خضم مذبحة بعد أخرى، وأحكام جماعية بالإعدام، وإتهامات بالتعذيب، والقتل خارج إطار القانون، والتعدي على حرية الإعلام وحقوق الإنسان الأساسية، وغيرها، لم يزعزعه سوى قضية مريم. ويبدو السؤال الجدير بالطرح هنا: لماذا كان لقضية مريم كل هذا التأثير، دون سواها، في قريبي ومحمد صبحي وغيرهما؟

كان حق التعليم المجاني، وضمانة التوظيف لدى الدولة، جوهر العقد الإجتماعي للنظام الناصري، في مقابل إغلاق المجال السياسي ومصادرة الحريات العامة. لكن سياسات الإنفتاح الساداتية، وحملات الخصخصة الواسعة التي قادها مبارك من بعده، كانت معززة بتحرير الدولة المصرية من إلتزام ضمان التوظيف، مكتفية بحق التعليم المجاني للجميع كمحور وحيد لعقدها الإجتماعي. وبالتوازي، أرغمت على فتح المجال السياسي على مضض، في سبيل امتصاص بعض من الضغط الذي ولّدته نسب البطالة العالية، والتفاوت الطبقي الفادح الناتج من سياسات تحرير السوق غير المنضبطة. ترسخت ضمانة التعليم المجاني، كسبيل وحيد وحصري للتحقق الفردي والترقي الإجتماعي لدى محدودي الدخل والنساء وسكان الأقاليم والأقباط، وغيرهم من البعيدين عن دوائر السلطة والنفوذ. وذلك ليس بوصف التعليم القيمة الإجتماعية الأسمى الجديرة بالتمسك بها، بل بوصفه الحد الأدنى من الأمل لديهم، والبند الوحيد الباقي من استحقاقات عقدهم الظالم مع الدولة والذي بفقدانه يضحي عقداً للإذعان بلا مقابل وبلا حد أدنى من الطموح في التحرر من بنود التهميش المفروضة عليهم في طياته.

تأتي قضية مريم، كفتاة وكقبطية، ومن أسرة متواضعة الحال تنتمي لإحدى محافظات الصعيد، لتزعزع ثقة فئات المهمشين – على اختلاف أنواع تهميشهم ودرجاته – في التزام النظام الحالي بمنحهم فُتات تعاقداتهم مع الأنظمة السابقة. فحتى تواطؤ على استحياء، أو تأييد علني لبطش النظام بخصومة السياسيين، وتنازل عن هامش حق التعبير الضئيل الذي كان مسموحاً به في عهد مبارك، والتخلي عن طموح تولي المناصب العليا في المؤسسات السياسية والجيش وأجهزة الأمن والقضاء التي لطالما اقتصرت على فئات بعينها... لم يعد كافيا لحماية الحد الأدني من مكتسباتهم الضئيلة بالأساس، وبالأخص في النظام التعليمي، الذي، رغم تواضع كفاءته، لكنه كان ينظر له بوصفه نزيهاً ومحايداً حتى وقت قريب. هكذا، يفقد النظام السياسي ما تبقى من شرعيته لدى مؤيديه قبل خصومه، باستنساخ ممارساته في المجال الأمني في كافة أجهزته، ودفاعة الأعمى والمستميت عن هيبة الدولة التي لا تخطئ، ورجالاتها أياً كانوا، وذلك بلا أي هدف سوى تنزيه نفسه عن المحاسبة.

لم يبدُ قريبي في نهاية حديثه الأخير معي، مستعداً لتغيير موقفه من تأييد النظام الحالي، بقدر جزعه من إمكانية تداعيهز لكنه بلا شك وصل إلى قناعة، ربما ليست متأخرة جداً، بأن نصيبه من مقايضته الضمنية مع النظام، ربما ينتهي إلى صفر، أو في أفضل الأحوال، كما ختم مكالمته مكرراً مزحة مسرحية "السكرتير الفني": "صفر واحد، طيب يخلوها صفرين"!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها