الأربعاء 2014/11/26

آخر تحديث: 07:57 (بيروت)

لماذا تفشل قوانين الختان؟

الأربعاء 2014/11/26
increase حجم الخط decrease
في العام 1985 أصدرت السلطات البريطانية قانوناً، أضحى بموجبه "تشوية الأعضاء الجنسية للإناث"، والمعروف باسم "ختان الإناث"، مجرّماً. لاحقاً، في العام 2003، أضيف نص قانوني يعاقب المشاركين في نقل الأطفال إلى الخارج بهدف إجراء عملية "القطع"  المجرّمة في الداخل، بالسجن 14 عاماً. لكن، رغم البنية القانونية التي يفترض أنها تحاصر تلك الجريمة في الداخل والخارج، إلا أن الأرقام التي أعلنها تحالف من مؤسسات طبية ونقابات ومنظمات لحقوق الإنسان، الشهر الماضي، كشفت أن في إنجلترا وويلز، 66 ألفاً من ضحايا عملية القطع، وأن أكثر من 20 ألف قاصرة مرشحات ليصبحن من الضحايا في المستقبل. بل إن المستشفيات الإنجليزية استقبلت أكثر من 1700 فتاة ممن تعرضن لعملية القطع، منذ نيسان/أبريل وحتى تشرين الأول/أكتوبر الماضيين. 

اتخذت الحكومة البريطانية الحالية إجراءات إضافية لمكافحة تلك الجريمة خلال العامين الماضيين، تتضمن جمع معلومات عن الضحايا بواسطة المؤسسات الطبية بشكل دوري، وتمكين المحاكم من إصدار قرارات بالمنع من السفر للضحايا المحتملات من القاصرات، و إجراءات أكثر تشدداً في الموانئ والمطارات مع الأُسر التي يشتبه في سفرها بصحبة فتيات قُصّر بهدف إجراء العملية. لكن، ومع هذا كله، تستمر جريمة القطع، ولم تُقدم للمحاكم البريطانية سوى قضية واحدة من هذا النوع، خلال الأعوام الثلاثين الماضية. القضية التي نُظر فيها في محكمة بشمال لندن، في نيسان/أبريل الماضي، ولا تزال جلساتها جارية، استُقبلت بحفاوة بالغة من وسائل الإعلام، بوصفها القضية الأولى من نوعها في التاريخ البريطاني، وتتويجاً لانتصار ساحق للجهود المبذولة لمكافحة تلك الجريمة البربرية.

لكن سرعان ما تحول ذلك الحماس الإعلامي إلى خيبة أمل بعدما بدأ انكشاف تفاصيل القضية. فتعليقات من خبراء طبيين على القضية، ادعت أن دوافع سياسية كانت وراء الدفع بالقضية، رغم عدم توافر أي أدلة لتدعيمها. وأكثر من ذلك، اتّهم بعض الصحف، الإدعاء العام، بالجهل بعملية "القطع" إجمالاً. فالقضية المنظورة تتعلق بعملية جراحية أجريت لامرأة بالغة، بعد وضعها لطفل في أحد مستشفيات لندن الحكومية، وهي ملابسات لا تتفق مع طبيعة العملية التي تُجرى للقاصرات، في عيادات غير مرخصة، أو في الخارج.  

وبينما ترجّح التكهنات الإعلامية تبرئة المتهمين، كشف استطلاع للرأي بأن القضية، وبسبب تهاوي أركانها، دفعت نسبة معتبرة من العاملين في المجال الطبي البريطاني إلى الميل لعدم تقديم الرعاية الصحية المطلوبة للنساء من ضحايا عملية القطع، خوفاً من التعرض للمحاكمة والاتهامات الجزافية. هكذا، وفي مفارقة مخزية، تحولت أول قضية منظورة في المحاكم البريطانية تتعلق بالجريمة، دافعاً لحرمان الضحايا من حقهن في الرعاية الطبية، بدلاً من معاقبة الجناة وردعهم مستقبلاً.

ودفعت تبعات القضية، جريدة "الغارديان" إلى تبني حملة واسعة، ليست معنية بتغليظ العقوبات القانونية فقط، بل أيضاً بمبادرات للتوعية والثقيف الصحي في المدارس، وعبر المؤسسات الصحية والإعلام المحلي، والمؤسسات الدينية، ومنظمات المجتمع المدني العاملة مع الجاليات الأجنبية الأكثر عرضة لتلك الجريمة. إضافة إلى برامج تدريب للعاملين في مجال التعليم والصحة والرعاية الإجتماعية، عن كيفية التعامل مع تلك المشكلة. واعتمدت تلك الحملة، وما زالت، على الدروس المستفادة بعد ثلاثين عاماً على تجريم عملية " القطع". فبُنية قانونية محكمة، من دون تغيير في وعي الجاليات المتورطة في الجريمة، غير كفيل بإحداث أي تغيير حقيقي. وقضايا هشة ذات دوافع سياسية لن تردع الجناة، بل على العكس، ستأتي بتبعات سلبية تعانيها الضحايا وحدهن. 

في مصر، حيث تتعرض أكثر من تسعين في المئة من الفتيات لذلك الاعتداء والتشوية البدني المؤبد، نجحت جهود وضغوط مستمرة من جهات حكومية وأهلية، في توجيه الاتهام في أول قضية متعلقة بختان الإناث في مصر، منتصف العام الماضي، أي قضية سهير الباتع، بعد أكثر من ستة أعوام على تجريم الختان بنص القانون. لكن تعاملاً سياسياً مع القضية، وتناولاً إعلامياً غير مهني بالمرّة، قاد إلى نتائج عكسية تماماً. فالقضية التي تراجع الإدعاء العام عن توجيه الاتهام فيها، لعدم كفاية الأدلة في السابق، ربما لتواطؤ أسرة الفتاة على جريمة الختان، تم تقديم المتهميَن فيها للمحاكمة لاحقاً بعد ضغوط سياسة من دون استقصاء النيابة العامة لأي أدلة إضافية تضمن ثبوت التهمة أو إدانه الجناة حال محاكمتهم.

من جانب آخر، تقوم مذكرة الإدعاء، في تحايل على ضعف الأدلة المتعلقة بتهمة إجراء عملية الختان، بالتركيز على جنحه القتل الخطأ، أي الإهمال في هذه الحالة. وبينما كان يجدر بوسائل الإعلام المصرية فحص القضية من منطلق تمييعها لفداحة جريمة الختان ووحشيتها، وتحويلها لقضية إهمال طبي، فقد اعتمد الإعلام المصري ترجمات لمقالات "الغارديان" ووسائل إعلام غربية أخرى، من دون تحمل عناء قراءة مذكرة الإتهام. وانبرت للاحتفاء بالقضية بوصفها نصراً محققاً في البداية، ثم تباكت على انهيار الأمل الأخير في مكافحة الختان، بعد تبرئة المتهمين، وهي النتيجة التي لم يكن صعباً التكهن بها منذ البداية.

مأساة سهير الباتع، وقضيتها، تذكير بجريمة الختان التي يمارسها المجتمع المصري ضد الملايين من فتياته، ودليل إضافي مؤلم على استحالة تحقيق أي تقدم حقيقي في ذلك الملف، رغم تغليظ العقوبات، من دون سعي منهجي إلى مواجهة التواطؤ المجتمعي الواسع تجاه تلك الجريمة. الأمر الذي يتطلب تضافر جهود المجتمع المدني والإعلام مع مؤسسات الدولة التي لا تبدو معنية كثيراً بالأمر، سوى بإصدار المزيد من القوانين التي لا تسعى إلى تنفيذها، والدفع بقضايا هشة، تحت الضغط السياسي وبهدف الاستعراض الإعلامي.. وفوق الكل، محاصرة منظمات المجتمع المدني وتجفيف مواردها ما أمكن. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها