الإثنين 2024/06/10

آخر تحديث: 08:12 (بيروت)

إلى اليمين المتطرف دُرّ

الإثنين 2024/06/10
إلى اليمين المتطرف دُرّ
increase حجم الخط decrease

طوال عقود، وعلى امتداد أكثر من عملية انتخابية فاقمت من ظاهرة وصول ممثلي اليمين المتطرف الى مقدمة المشهد السياسي الفرنسي، كان هناك إصرار من قبل بعض المتابعين ومن قبل بعض المهتمين، على أن يُقدّموا تفكيرهم الرغبوي على الواقع المرّ للمجتمع السياسي والأزمة الحقيقية للديمقراطية الليبرالية. وقد قادتهم الرغبة في ستر العورات التي تتوسّع يومًا بعد يوم في العملية السياسية، إلى أن يعتبروا بأن الميل المتطرف نحو اليمين لدى الناخبين في أوروبا عمومًا وفي فرنسا خصوصًا، ما هو إلا نتيجة شبه حتمية لتراكم الخيبات الاقتصادية والأمنية أولاً. وطوّروا أدبيات تحليلية لفهم توجهات أصوات المقترعين نحو حزب "الجبهة الوطنية" لصاحبه المؤسس القادم من ميولٍ نازية واضحة، جان ماري لوبين، وصولاً إلى حزب "التجمع الوطني" لصاحبته مارين لوبين، ابنة الأب المؤسس والتي فهمت منذ نعومة أسنانها بأن السياسة خدعة يمكن لها أحيانًا أن تنطلي على ملايين البشر. وأعتبر أصحاب التفكير الرغبوي، الذي لطالما هرب من مواجهة الأزمات بمسمياتها، بأن الاقتراع لليمين المتطرف، نازي النشأة، وفاشي المآل، لا يعكس إلا غضبًا مجتمعيًا في مواجهة فشل سياسات الأحزاب التقليدية من يسار الوسط الى يمين الوسط مروراً بمن لاذ ملاذهم. وبالمحصلة، فلقد لقّبوا هذا النوع من التصويت بالتصويت العقابي.

هؤلاء، نسوا أو هم أهملوا، عن دراية أو عن عدمها، بأن السياسات المستمرة منذ عقدين على الأقل، والتي رسّخها وصول الرئيس إيمانويل ماكرون الى الحكم سنة 2017، وعلى كافة الأصعدة داخليًا ودوليًا، قد لعبت دورًا فاعلاً في انتقال الجزء الأكبر من المقترعين الى اليمين المتطرف، وهم لا يمثلون الجزء الأكبر من المواطنين حتمًا، لأن نسب الامتناع عن التصويت تتزايد باستمرار وفي موازاة الجهود الرامية لفرض إرادات نيوليبرالية على بلاد ثورة الحرية والأخوة والمساواة. وللامتناع عن التصويت واسبابه حقلٌ واسعٌ لن أخوض فيه واترك السباحة بين امواجه لفرصة قادمة.  ولكي أقترب من الإنصاف، فيجب الاعتراف بأن أول من ساهم، وبذكاء مرّ، بتدمير اليسار الديمقراطي والأقل ديمقراطية منه، هو الرئيس الراحل، الزعيم الاشتراكي نظريًا، والقادم أساساً من يمينٍ كاثوليكي، فرانسوا ميتران، وذلك عبر تحالفاته ونقيضها التي استمر بممارسة لعبتها طوال فترتي حكمة منذ 1981 وصولاً إلى 1995. لكن وعلى العكس ممن تلاه من الاشتراكيين، كفرانسوا هولاند مثلاً، أو مستشاره المنقلب عليه، الماكرون الحالي، فقد كان لدى ميتران مشروع سياسي واضح، وإيمان أوروبي يتجاوز فكرة فتح الأٍسواق إلى فتح العقول وتسوية النزاعات القديمة المتعفنة في زوايا أدمغة بعض رجالات السياسة الأوروبيين.

منذ اليوم الأول لوصول ماكرون إلى قصر الإليزيه، والذي تم بفضل خوف المقترعين من اليمين المتطرف وبحثهم عن الخلاص عبر التصويت لأقل الضرر الممكن. وهو الذي لم تتضّح رؤيته للحياة السياسية، وحيث اعتمد في ما اعتمد على قاعدتين أساسيتين، تنصّ الأولى على تخليص اليمين واليسار التقليديين من رجالهم ونسائهم الأبرز وذلك من خلال ضمهم الى فريقه. والثانية، تستند إلى الدعم القوي والفاعل من رجال المال والنفوذ الذين سبق لماكرون أن خبرهم في عمله الخاص قبل خوضه مضمار العمل العام. وانطلاقًا من منابع القوة هذه، واعتمادًا على أنانية مفرطة في كيفية إدارة دفة الحكم، سعى لاختيار موظفين ساميين لرئاسة الحكومات المتعاقبة لا يمكن أن يشكلوا أي تهديد جدي له. وأدى هذا الاختيار الى سياسات اقتصادية متخبطة واصلاحات غير مفهومة تعتمد أولاً وأخيرًا على تلبية مصالح القوى المالية المهيمنة. ولتشويش المشهد وإبعاد الأنظار عن الخيبات الاقتصادية والإدارية المتلاحقة، عمدت آلة الحكم الى التركيز على ما يمكن له أن يحرّك المشاعر والأحاسيس الكامنة، مهما كانت سلبية، لدى العامة.

فهِم القائمون بأن مسألتي الأمن والتعصب الديني الإسلامي حصرًا، تمكنا الحكومة من حرف الأنظار عن مكامن الخلل الحقيقية في المشهد الفرنسي. وعلى الرغم من أهمية المسألة الأمنية في حياة المواطنين، إلا أنه قد جرى تضخيم بعض الاحداث والتركيز عليها بصورة جعلت البعض يقع في فخ الاعتقاد بأن دولة القانون قد اضمحلت. وعلى الرغم من ضرورة مواجهة التطرف الديني في أي مجتمع وضمن أي دين، إلا أن التركيز الذي تم من قبل الحكومة برموزها كافة وبمساندة إعلامية وقحة على مسائل تتعلق بالحياة الشخصية للمسلمين الفرنسيين كان مبالغًا به بشدة. وقد وصل أحيانًا، عبر خطاب يدّعي الوسطية، إلى درجة التأسيس النظري لما يهرف به اليمين المتطرف. ويُضاف إلى ذلك كله وقوع الإعلام الفرنسي الذي كان مدرسة في المهنية، في فخ التكتلات المالية والتي صارت تملي عليه محتواه. وفُتِحَ المجال لليمين المتطرف بأن ينشر سمومه تجاه الأجانب وتجاه المسلمين من خلال أكثر محطات التلفزة الخاصة مشاهدة وعبر أدوات ترفيهية تُلقي بالمشاهد في وحول الاثارة والتفاهة.

فاز حزب "التجمع الوطني" المتطرف بالأمس في الانتخابات الأوروبية بنسبة عالية جدًا. وفشل الآخرون في تقديم أي بصيص نور. وفي بادرة نادرة، قرر ماكرون حل البرلمان داعيًا إلى انتخابات تشريعية نهاية هذا الشهر. هل سيحكم البلاد في تعايشٍ مع اليمين المتطرف الذي يُنتظر أن يكسب الانتخابات المقبلة؟ أم سيشعر بالعار الذي أصبغه على البلاد ويستقيل؟

 

  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها