الأربعاء 2024/02/28

آخر تحديث: 04:54 (بيروت)

"رأس الحكمة"

الأربعاء 2024/02/28
"رأس الحكمة"
من الإعلان الترويجي لمشروع فيلات الساحل الشمالي المصري بالقرب من "رأس الحكمة"
increase حجم الخط decrease

فيما تتعمق أزمتها الاقتصادية، تنغرز مصر في دراما شكسبيرية، أو بالأحرى تراجيديا تقف على حافة الملهاة. لا تجار من البندقية في حالتنا هذه، بل دول صديقة وأشقاء، أما النظام في القاهرة فلم يترك لنفسه أي خيارات سوى أن يبادل ديونه باقتطاع أرطال من اللحم الحي.

مصر صاحبة رصيد الاقتراض الأعلى من صندوق النقد، بعد الأرجنتين، تعلن في بيان غامض على لسان رئيس وزرائها عن "صفقة ضخمة" بخصوص مشروع رأس الحكمة على الساحل الشمالي للبحر المتوسط، وبالقرب من الحدود الليبية. ببطء تتسرب بيانات شحيحة، وبعضها متناقض، 35 مليار دولار ستدخل الخزينة المصرية، منها 22 أو 24 مليار دولار بشكل عاجل خلال الشهرين المقبلين، وتبشرنا الحكومة بحل لمعضلة العملة الصعبة المستحكمة ولسعري الصرف بين السوق الرسمي والسوق السوداء. في المقابل، تُعقد "شراكة" بين القاهرة وأبوظبي لتطوير المنطقة، بحصة من الأرباح تذهب إلى الخزانة المصرية مستقبلاً. الضبابية الهزلية التي أحاطت بالإعلان، لا تطمئن جمهوراً لا يثق في حكومته بالأساس، وبالأخص مع غياب أي وسيلة لمراقبة أعمالها. مساحة المشروع تبلغ 170 مليون متر مربع.

يحمل المشروع اسم قرية صغيرة على البحر، كانت في الماضي منتجعاً صيفياً للعائلة الملكية، لكن حدود الصفقة تتسع لتشمل خمس مدن جديدة، هي العَلَمين والنجيلة وسيدي براني وجرجوب بالإضافة إلى رأس الحكمة. يُعدّ المشروع جزءاً من مخطط التنمية العمرانية 2052، والذي يهدف إلى تحويل رأس الحكمة إلى "منطقة جذب سياحي عالمي"، وبحسب تصريحات حكومية مؤخراً من المزمع تطوير مدينة العلَمين لاستيعاب تجمع حضري مليوني. تنقل الصحف بيانات أخرى عن إنشاء مطار مدني "خارج أرض المشروع"، ستتم إدارته من قبل الشركة الإماراتية وبحصة للحكومة المصرية من أرباح التشغيل.

المساحة الهائلة للمشروع، بالإضافة إلى ملحقاته، ليست كل ما يدعو للتوجس. فالمدن الخمس الجديدة المعلن عنها، ليست "جديدة" على الإطلاق، بل هي مدن قائمة بالفعل. في هذا الشأن يصرح رئيس الوزراء بأنه تم "حصر جميع الموجودين على الأرض" إلى جانب "حصر جميع المباني"، ومن ثم يُقرّ بمخطط لتهجير الأهالي مع منحهم "تعويضات" عن ممتلكاتهم.

دائماً ما تعرض سكان محافظة مطروح، مثل غيرهم من سكان المحافظات الحدودية، إلى التهميش وتشكيك السلطات، سواء لأسباب أمنية أو إثنية، أو الإثنين معاً. وفي الحقيقة تشهد مصر بالفعل واحدة من أوسع عمليات التهجير القسري وانتزاع الأراضي الصامتة، لإفساح المجال لرأس المال والاستثمارات الأجنبية بالأخص. على سبيل المثال في مثلث ماسبيرو وجزر الدهب والوراق والقرصاية في القاهرة، وفي شبة جزيرة سيناء بطول الشريط الحدودي، بالإضافة إلى الكثير من الأحياء غير المخططة في محافظات مصر المختلفة والآن في نطاق المشروع الجديد في الشمال الغربي للبلاد.

يبدو "رأس الحكمة" نموذجاً كلاسيكياً لمشاريع التنمية العقارية والاقتصاد الخدَمي المُسوّر على حساب إزاحة الأهالي وتهميشهم وإساءة استخدام البيئة الطبيعية المحيطة. تتضخم الفقاعة العقارية بلا نهاية، وبالأخص على الساحل الشمالي المتخم بمجتمعاته السياحية المعزولة والخالية معظم العام باستثناء شهور الصيف. وفي ظل معدلات التضخم الهائلة وغياب محفزات للاستثمار الإنتاجي، تظل العقارات هي مخزن القيمة الوحيد الآمن والقابل للاستخدام. وتشجع الدولة وحكوماتها المتتابعة، محدودة الخيال، ذلك النهج الاستثماري، كون حيازتها لمساحات هائلة من الأراضي تمكنها دورياً من تصريف بعضها للحصول على دفعات من السيولة الضرورية بشكل مُلحّ، وفي الوقت نفسه تحفيز السوق عبر أعمال الإنشاءات والأنشطة الاقتصادية المرتبطة بها.

في ما يخص الشق السياحي للمشروع، لا يظهر أن مخططي "رأس الحكمة" انتبهوا لدروس جائحة الكورونا وفك الارتباط الأميركي-الصيني، ولا لتبعات الحرب الأوكرانية والحرب في غزة، وهي الدروس المتعلقة بهشاشة اقتصاد الخدمات المعتمد بشكل شبه كامل على الخارج، والحاجة إلى تقوية قطاعات اقتصادية متماسكة ونشطة محلياً.

يقدم المشروع أيضاً مثالاً للأزمة المزدوجة لركود رأس المال العالمي وحاجته الدائمة للتوسع وبطرق شرسة أحياناً، والجانب الآخر للأزمة يتمثل في فداحة دائرة الاستدانة المغلقة في الاقتصادات المتعثرة. وفي ظل تلك الظروف، يتحول رصيد الاستدانة إلى رأسمال سياسي لصالح الجهات المانحة، وهو رأسمال مجمد عادة ويتم تفعيله في لحظات الأزمات القصوى لممارسة النفوذ والاستيلاء على المزيد من الموارد المحلية، وبالتبعية يتضخم رأس المال السياسي لدى المقرض وهكذا، في دورة تراكمية متكررة.

وثمة شكوك مبررة في الأثمان والاشتراطات السياسية المرفقة بما تسمّيه الحكومة "الصفقة الكبرى"، وبالأخص في سياق الوضع الإقليمي المتلاطم. لكن، حتى ولو تم افتراض حُسن النوايا، لا يقدم "رأس الحكمة" سوى تغطية جزئية لالتزامات الحكومة المصرية بالدولار للأعوام الأربعة المقبلة فقط. فما الذي يمكن للحكومة المصرية أن تفعله بعد دفع الأزمة إلى الأمام؟ 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها