الإثنين 2024/02/12

آخر تحديث: 07:06 (بيروت)

أين أنت يا "بيدرو"؟

الإثنين 2024/02/12
أين أنت يا "بيدرو"؟
increase حجم الخط decrease

يبلغ عدد المواطنين الأرجنتينيين من أصول سورية ولبنانية وفلسطينية ما يقارب 3.5 مليون من اجمالي عدد السكان والذي بلغ في احصائيات سنة 2023 رقم 45 مليون تقريباً. هؤلاء المشرقيون يشكلون 10 بالمئة من سكان البلاد الذين وصلها أجدادهم في بدايات القرن العشرين هاربين من عسف السلطنة العثمانية وبوثائق سفر تركية، مما أدى لأن يطلق عليهم حتى اليوم تسمية "الأتراك". وتروي الحكاية أن غالبية الأجداد الذين وصلوا فرادًا قبل أن تلتحق بهم عائلاتهم، كانوا يلقبون من قبل رجل الشرطة الذي يسجل وصولهم باسم اسباني من لغة البلاد وهو "بيدرو". والسبب في ذلك هو فقدان لغة التواصل بين الطرفين ووجوب ملء الوثائق، وحيث أن الأرجنتيني لا يفهم اللغة التركية والمشرقي لا يفهم اللغة الاسبانية. وبذلك، كان مجمل الرجال المشرقيين الواصلين حديثًا يحملون اسمهم الأصلي مسبوقًا باسم "بيدرو".

لقد كتب المختصون كثيرًا عن هذه الجالية النشطة وعن دورها الاقتصادي الكبير الذي بدأ بحمل البضائع على ظهور البغال والتجول في الأرياف، وصولاً إلى امتلاك كبريات الشركات التجارية والصناعية. وكان منهم بعض المدينين باليهودية تضافرت جهودهم مع جهود أترابهم من المسلمين والمسيحيين من مختلف المذاهب، لتأسيس مجتمع مشرقي / أرجنتيني يساعدهم على التعاضد والاندماج. ويبلغ عدد الموسويين اليوم، من منبعٍ مشرقيٍ وآخر أوروبي شرقي وروسي قرابة الـ 200 ألف، متمركزين أساسًا في العاصمة بيونس أيريس. وصول الأوروبيين والروس، أتى، وأتت معه النظرية الصهيونية، بعد عشرات السنين من استقرار اليهود المشرقيين بانسجام مع مواطنيهم المسيحيين والمسلمين.

تنظّم المشرقيون العرب في أندية ثقافية ومؤسسات اجتماعية تسعى إلى تحسين ظروف استقرارهم واندماجهم وكذلك تحافظ على علاقتهم الثقافية والإنسانية ببلاد المنشئ. ولقد غاب عنهم النظر الى الأمر السياسي باتحاد، فنشطوا بشكل منفصل وفرداني، مما أوصل كثيرين منهم الى مناصب قيادية ومن أشهرهم، رئيس الجمهورية السابق كارلوس منعم حكم بين 1989 و 1999، وهو من اصل سوري، وحاكم ولاية العاصمة بين عامي 1987 و 1991، أنطونيو كافيرو، وهو من أصل لبناني، ورئيس مجلس النواب بين عامي 2011 و 2015، جوليان دومنغيز، وهو من اصل سوري. وحتى في الحقبة العسكرية التي سيطر خلالها الجيش على الحكم، كان من بين ضباط الديكتاتورية العسكري بعض ذوي الأصول المشرقية. هم إذًا اندمجوا بشكل لا يمكن مقارنته بما يحصل في أيامنا هذه في أوروبا وفي أميركا الشمالية مع المواطنين من أصول عربية، مشرقية كانت أم مغاربية.

غلب على توجهات الارجنتينيين من أصول مشرقية التقرّب من الفكر السوري القومي الاجتماعي الذي أسّس له أنطون سعادة والذي قضى بعضًا من سنين عمره في هذه الأصقاع. وبالتالي، فقد غابت سيطرة الانتماءات الدينية والمذهبية على الخيارات السياسية بقدر ما كان الانتماء الى سوريا "الكبرى" هو البوصلة المسيطرة على التوجّهات. ولكن سرعان ما تفتت هذا التلاحم بقدرة أنظمة وطوائف. فلقد عاجل النظام السوري جاليته بتأسيس فرعٍ أمنيٍ خارجي أسماه "فيا آراب" وجمع من خلاله أصحاب الحنين الجاهلين بكل تفاصيل حيوات أهليهم في بلد المنشئ سوريا. وكانوا يجتمعون حول أطباق التبولة والحمص وليسمعوا الأغاني التي تُدمِعُ العيون حنينًا الى وهمٍ لا يعرفون عنه شيئا. وقد عايش كاتب هذه السطور الأمر عن قرب بحديثه عن الثورات العربية في بداياتها أمام جمهور مكتسبٍ للمستبدين في بيونس أيريس وفي برازيليا وفي سنتياغو. وكان حوار طرشان عن حقّ.

في ظل أزمة اقتصادية حادة ونفور الناخبين من الطبقة السياسية التقليدية وانعدام ثقة الشباب بعملية الاقتراع، انتخب الأرجنتينيون مؤخرًا، "المهرج" خافيير مايلي، رئيسًا. وهنا استخدام صفة المهرج ليس استخفافًا بمهنة التهريج لا قدّر الله، والتي تعتبر من أصعب المهن إن أجاد صاحبها أداؤها. بالمقابل، ربطها بميلي، هو للإشارة إلى شعبوية في أقصاها وتكاد تشير إلى خلل فيزيولوجي، ونيو ليبرالية خارجة عن طور البولسونارية البرازيلية وكارهة لجهاز الدولة كمؤسسات، وخارقة للقوانين، ومتطرفة في عنصريتها وكرهها للفقراء وللسكان الأصليين. وفي إطار هذا التهريج، قام كرئيس دولة بأول زيارة خارجية له إلى إسرائيل وناح كالتمساح مقطوع الذيل أمام حائط المبكى مرفقًا بمستشاره للشؤون اليهودية، وهو حاخام أتى به من الأرجنتين وعيّنه سفيرًا لبلاده في المقر الجديد لسفارته التي قرر نقلها الى القدس المحتلة. ولقد لعب هذا الحاخام دورًا هامًا في تحويل مايلي من معادٍ للسامية، كيميني متطرف كاثوليكي متشدّد، إلى ساعٍ لاعتناق الديانة اليهودية الارثوذوكسية كما صرّح بنفسه أثناء الزيارة.

مسرحية هزلية ومؤلمة في الوقت نفسه، نتابعها في أداء اليمين المتطرف المتمدّد شرقًا وغربًا، مرة على شكل مهرج مصاب بلوثة، أو على شكل متعهد ومتحرّش مرموق، أو على شكل حنين لزمن نازيٍّ أغبر، أو على شكل انقلابي أجهض ثورة بشعبوية من النوع الرديء، أو على شكل من يُحابي كل هؤلاء سعيًا إلى الانتخابات وهو يودي بمجتمع بأكمله إلى أحضان التعصّب والانغلاق.

أين "بيدرو" الأرجنتين مما يحصل؟ هل صوّت له تيّمنًا بالمثل الذي يقول "الذي يتزوج من أمي أناديه يا عمي"؟ أم سيعمل على تفعيل حنينه لأرض الأجداد بعقلانية بعيدًا عن سيطرة الأنظمة المستبدة أو تأثير الحمص والتبولة؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها