لو أن المحقق الأمريكي الخاص روبرت هور أوصى يوم الخميس بتوجيه الاتهام إلى الرئيس بايدن لربما كان الأمر أسهل على الأخير من التوصية التي خلص إليها المحقق، وهي عدم توجيه اتهامات جنائية للرئيس، لأنه سيكون من الصعب إقناع هيئة محلفين بإدانته بارتكاب جناية خطيرة تتطلب حالة عقلية متعمدة، نظراً لأنه رجل مسن وذاكرته ضعيفة. ويتضح من تقرير المحقق أن الرئيس بايدن فشل في تذكّر تواريخ لها أهمية شخصية، مثل الفترة التي قضاها نائباً للرئيس، وتاريخ وفاة ابنه الذي سبق أن قال عنه في أحد أحاديثه أنه قُتل في حرب العراق، والصحيح أنه مات بعد سنوات من ذلك التاريخ في مستشفى أمريكي.
المحقق هور كان أمضى شهوراً للتدقيق في قضية سوء تعامل بايدن مع وثائق سرية سياسية وعسكرية، عُثر على بعضها في مكتبه في واشنطن، وعلى بعضها الآخر في مرآب منزله. ومن الواضح أن القضية مشابهة جداً لقضية يُحاكم بموجبها الرئيس السابق ترامب، من دون أن يحظى بالعذر المخفِّف الذي منحه المحقق هور للرئيس بايدن. أي أننا في المحصلة إزاء مرشَّحَين للرئاسة الأمريكية، أحدهما متهم بسوء استخدام وثائق رسمية سرية لأن قدراته الذهنية تسمح باتهامه بالإهمال المتعمد، بينما ينجو الثاني من المحاكمة بسبب تدني قدراته الذهنية!
احتجّ جمهوريون على إعفاء بايدن من المحاكمة، إلا أن احتجاجهم يهدف فقط إلى تعزيز مزاعمهم الخاصة بتسييس الاتهامات الموجَّهة إلى ترامب من أجل حرمانه من العودة إلى البيت الأبيض. أما في ما عدا هذه الاستغلال فمن المرجح أن يكون ترامب نفسه سعيداً جداً بقرار المحقق، لأنه يؤكّد على حجة أساسية في حملته الانتخابية ضد بايدن، وهي عدم ملائمة قدراته الذهنية للتجديد له في منصب الرئاسة.
في شهر أيلول الفائت، في خطاب ذي دلالة مزدوجة، قال ترامب: "لدينا رجل فاسد للغاية وأسوأ رئيس في تاريخ بلادنا، وهو ضعيف الإدراك وليس في وضع يسمح له بالقيادة، وهو مسؤول الآن عن التعامل مع روسيا وحرب نووية محتملة. فكِّروا في الأمر؛ سنكون سريعاً في الحرب العالمية الثانية إذا اعتمدنا على هذا الرجل". لا بأس، قد يفوت كثر منا أن ترامب الذي وصف بايدن بـ"ضعيف الإدراك" تحدث سهواً عن الحرب العالمية الثانية، وهو يقصد وقوع حرب عالمية ثالثة؛ للمفارقة أتت زلّته في العبارة نفسها التي يستغل فيها زلات خصمه.
وزلة لسان ترامب بين حرب ثانية وثالثة قد تهون أمام زلة أخرى له، ففي خطاب أثناء حملته الانتخابية في نيو هامبشاير في أكتوبر الماضي أثنى ترامب على قائد أجنبي بالقول: "هناك رجل، فيكتور أوربان، هل سمع به أحد من قبل؟ إنه على الأرجح أحد أقوى القادة في العالم؛ إنه رئيس تركيا". والمقصود هنا هو رئيس وزراء هنغاريا اليميني، ويستشهد به ترامب بسبب سياسته في منع وصول المهاجرين وإقامة سياج لهذا الغرض يفصل بين هنغاريا وصربيا وكرواتيا.
لم يتخلّف بايدن عن السباق، ففي مؤتمره الصحافي الذي أعقب صدور تقرير المحقق روبرت هور قال ردّاً على التشكيك بقدراته الذهنية: "أنا الشخص الأكثر تأهيلاً في هذا البلد لأكون رئيساً للولايات المتحدة". لكنّ اعتداد بايدن بنفسه تكشّف في المؤتمر الصحافي نفسه عن زلة جديدة إذ أشار إلى عبدالفتاح السيسي بوصفه رئيساً للمكسيك، وهو خلط يستحيل فهمه إلا إذا كانت الحدود بين بلاده والمكسيك مسيطرة على عقله وهو يتحدث عن الحدود بين مصر وغزة. وهو تفسير لا يشفع له بما أنه قبل أيام قليلة تحدث عن لقاء جديد له بالرئيس الفرنسي ميتران الراحل عام 1996، وقبلها ذكر خصمه ترامب بوصفه الرئيس الأمريكي الحالي.
هناك الكثير مما يشبه الزلات المذكورة، سواء من جهة بايدن أو ترامب، وأكثر ما يهمّنا في هذا السيرك الانتخابي أنه يقدّم مثَلاً شديد الانحطاط على ما آلت إليه الديموقراطية في واحد من أهم معاقلها عالمياً. اليوم تفيد كل المؤشرات بأن ترامب عائد إلى البيت الأبيض في سابقة خطيرة من نوعها، فهو متهم في العديد من القضايا التي تبدأ بتحريضه أنصاره على عدم قبول نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية، والشروع في ما يشبه انقلاباً على الديموقراطية. ثم تتعدد الاتهامات الموجّهة إليه في قضايا تشهير، وسوء تعامل مع وثائق سرية، وتهرب ضريبي... إلخ.
عودة ترامب إلى الرئاسة ليست مجرد تقليعة سياسية مفاجئة من بلد كانت دائماً التقليعات الغريبة جزءاً من ثقافته، وانتصاره المرتقب على بايدن هو حصيلة انتصاره على الجناح التقليدي في الحزب الجمهوري الذي لم يفلح في إبراز شخصية تنافسه جدياً على بطاقة الترشيح. ثم هو فوز على الحزب الديموقراطي بجناحيه، التقليدي والتقدمي، لأن هذا الحزب لم ينجح أيضاً في الدفع بمرشّح أقدر من بايدن على ملاقاة ترامب، ولا يخفف من فشل الديموقراطيين أن يكونوا قد وقعوا أسرى تقليد إعطاء فرصة ولاية ثانية للرئيس.
غير بعيد تماماً عما هو شخصي، يجوز النظر إلى حالة بايدن الذهنية كتعبير عن حالة الترهّل في الحزب الديموقراطي الذي لم يقدّم جديداً بعد عهد بيل كلينتون، أي منذ ربع قرن. أما زلات ترامب فهي من نوع مختلف حقاً، وصاحبها يعبّر بجهله عن استخفاف أصيل بالمعرفة، بل هو حريص جداً على إظهار الاستخفاف كتعبير عن شعبويته التي يستقطب بها نسبة غالبة من أنصار الجمهوريين. أبعد من ذلك، من شبه المؤكد أن ترامب لا يمانع في تسليط الأضواء على زلاته، إذا كان سيضعه مزيداً من الوقت تحت الأضواء ويزيد في تداول اسمه على وسائل التواصل الاجتماعي. بدورها تعبّر خلطة ترامب الشعبوية عمّا آل إليه الحزب الجمهوري، خاصةً لجهة التمسّك بقيم الليبرالية، بل اعتبار الحزب الممثلَ الأكثر أصالة لمنظومة الليبرالية بأكملها.
ما يحدث في أمريكا غير بعيد عن المنطقة العربية، لا بسبب التواجد الأمريكي في المنطقة، ولا بسبب تأثير أمريكا من موقعها كقوة دولية أعظم. التأثير المحبط هو في ما تتعرض إليه الديموقراطية ذاتها من تنكيل في واحد من أهم معاقلها، وفي أن هذا التنكيل لا يمكن النظر إليه كطارئ يزول كما كان حال فوز ترامب عام 2016. يُضاف إلى ذلك كله أنه لا يمكن النظر إلى ما يحدث في الولايات المتحدة كاستثناء، فالديموقراطيات الغربية كافة في مأزق تتباين مظاهره قليلاً لكنه واحد في العمق، بينما تنتعش في المنطقة العربية وسواها قوى ترى انتصارها وبقاءها في مأزق الديموقراطيات الغربية.
وثائق رسمية سرية في مرآب بايدن، وثائق رسمية سرية في تواليت ترامب، أوربان رئيساً لتركيا، السيسي رئيساً للمكسيك... لقد كان رهان الديموقراطية الدائم أن تصحح أخطاءها، وكم يبدو صعباً اليوم أن تعيد الجميع إلى أماكنهم الصحيحة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها